Al-Quds Al-Arabi

«الرحلة» نوع أدبي

- ٭ ناقد وأكاديمي من العراق *استاذ البلاغة والنقد جامعة ديالى - العراق

تتخذ نظــم الأجنــاس الأدبية موقعا مهما، وأساســيا فــي )نظرية الأدب(؛ ولهذا تُعد منجزا أمميا يشــكل خطابــه وجها متقدما من وجوه النتاج الحضاري الذي تتفرع منه شجرة إبداع الحياة الممثلة في الأدب، وأجناسه، والفن وأنماطه.

ومع صعوبــة الاقتناع بوجود تعريف واحــد للأجناس الأدبية؛ لأن فكرة الكتابة الأدبية متنوعة يســودها الاختلاف في الأساس، فإن هذه المقالــة ترى أن أجنــاس الأدب اختزال منظم لشــكل الكتابة الأدبية في كل عصورها، يفضي إلى تبين المزايا الخاصــة باللغة الأدبية، والحدود الفاصلة بين أنواعها وأشكالها وأنماطها، فالجنس الأدبي اصطلاح مهمته تصنيفية في الأســاس تحيل على خريطة الأنواع، والأشكال، والأنماط، وهي تتقاسم سلطة الفصل بين النصوص آخذة بنظر الاعتبار أن الفصل لن يكون )ميكانيكيا( يفضي إلى العزلة التامة المفارقة لمحيطها، وإنما هو فصل جمالي بين مدخرات لســانية تتسم بالتداخل، والاختلاف، ولكنها في النهاية تمثل موقف الإنسان من طبيعة الحياة وإشكالاتها.

لا شــك في أن العقل النقدي العربي القديم بمدياته الزمنية المتوالية، استوقفته فكرة تجنيس الأدب، وتنويعه بعد أن قطع الأدب نفسه شوطا بعيدا في تأكيد وجوده، وتمثيل مواقف الحياة غير المحددة، وهذا يعني أن فكرة التجنيس كانت لاحقة لوجود الأدب، وانتشاره؛ لأنها ببساطة فكــرة )نقدية( منظمة قامت على تأمل شــكل الأدب، والبحث في هويته الأجناســي­ة من خارج حقوله، وهذا ما جرى للنقد العربي القديم خلال قــرون تفجره المعرفي، والإجرائي الذي قال بمقولات أجناســية هي في حقيقة أمرها اســتجابة لطبيعة الحاجة النقدية التي فرضت نفسها يوم ذاك من زاويتين متقاربتين:

الأولى: اســتحضر فيها الناقدُ القديمُ فكرة الأجنــاس الأدبية، وهو يعاين لغة النص القرآني الكريم، ويحاول تحديد لغته، من خلال قراءة الأجنــاس الأدبية المعروفة يــوم ذاك، لكي يثبت أن جنســية القرآن لا علاقة لها بالأجناس الأدبية الســائدة، وقد مثل هذه الزاوية خير تمثيل الجاحظ )255هـ( في «البيان والتبيين»، والباقلاني )403هـ( في كتابه «إعجاز القرآن » وغيرهما.

الأخرى: استحضر فيها الناقد القديم فكرة الأجناس الأدبية من فضاء الحاجة النقدية للأجناس نفســها، وقد مثلها ابن وهب الكاتب )335هـ( في كتابــه المهم «البرهــان في وجوه البيــان»، وأبو هلال العســكري (395هـ( في كتابه المهم «كتاب الصناعتين: الكتابة والشعر» وغيرهما.

مناســبة هذه المقدمة الوقوف على فكــرة تجنيس)الرحلة( لغرض تحديد مصطلحها الأجناســي الحديــث، ومعرفة موقعها في سلســلة التصنيفــا­ت الأجناســي­ة المتعددة التــي لاحقت متــون الأدب العربي الحديث، وهذا يســتوجب البحث في طبيعة )الرحلة(، وتحليل طبيعة خطابهــا الأدبي، واســترجاع الطبيعة الأولى لأصولهــا، وتحديد أبرز تشاكلاتها النصية، والاختلافي­ة، والمهادية، وصولا إلى تجاوز الإشكالية الأساســية التي تقابل الباحثين، والدارســن في حقل الأجناس الأدبية التي تتمثل في معرفة الكيفية التي تتشكل فيها الأنواع الأدبية، فضلا عن معرفة الحدود الفاصلة بين نوع وآخر، وتقدير قوة تلك الحدود.

مــن الحقائق الثابتة في تأريخ الأدب العربي أن أدب الرحلات لم يكن جديدا على العــرب، فقد قُدر لابن فضلان أن غــادر بغداد عام )309هـ( إبان القرن الرابــع الهجري، متوجها إلى بلاد الترك، والخزر، والروس، والصقالبــ­ة، وبعد عودته كتب رحلته الشــهيرة في وصف تلك البلدان لتكــون إيذانا بظهور أدب جديد في الثقافة العربية الإســامية سُــمي بـ)أدب الرحلات(الذي عرفه الناقد محمد صابر عبيد بأنه «ســرد نثري يعتمد آلية الوصف المشــهدي، ويقوم الراوي المرتحــل الذي ينتقل بين المدن والأماكن بوصف مشاهداته، وهو يســخر حواسه كافة، ويشحذ إمكاناته لتعمل بأقصــى طاقاتها في الملاحظة، والتصوير، والســماع، والمشاهدة، والتحســس والتذوق ليعكس نتائج ذلك في مدونات أدبية تصف وتصور المشهد الاجتماعي والإنساني في حدود زمكانية الرحلة.»

ويبدو لهــذه )المقالة( أن ابــن فضلان كان من أوائل من اســتوقفته إشــكالية تجنيس الرحلة بوصفهــا أدبا، فقد احتار فــي تحديد نوع ما كتب من نثر بدا جديدا على طبيعة الأدب يوم ذاك، وربما ســأل نفســه: أين يضع نصه فــي ما عُرف من أنــواع أدبية نثرية لــم تتجاوز حدود الخطبة، والرســائل بأنواعها، والمقامة، والوصايــا، والخبر، والنوادر والُملــح، وغيرها؟ وحين حانــت لحظة اكتمال الرحلــة بوصفها متنا لم يجد حرجا من إطلاق مصطلح )الرســالة( عليها، فســماها «رسالة ابن فضلان»، والرســالة نوع من الكتابة التي تتشكل وفق حاجات مختلفة تصنعها رغبة المرســل في الإخبار، أو الحكي، أو تمثيل واقع ما، لكن هذا النوع من الأدب خرج في العصر العباسي عن شكله التقليدي الإخباري الاتصالي إلى نمط من الكتابة السردية التي تُعنى بتمثل حالات مختلفة مثل: «رســالة الغفران» لأبي العلاء المعري التي كانت رحلة تخيلية إلى العالم الآخر، و«رسالة الزوابع والتوابع» لابن شهيد التي نحت المنحى نفسه، وغيرهما من رسائل اكتسبت شهرتها من خلال مضامينها.

ورســالة ابن فضــان التي كانت مزيجــا من المشــاهدة، والتوثيق التأريخي، والتســجيل الذاتي، جمعت بين الانطباع، وتقرير الحقائق، والوصــف، فضلا عن أنهــا عنيت بطبائع الشــعوب التــي وقفت عند ثقافاتها، وأنشطة أهلها، وهذا يعني أن ابن فضلان كان قد وقف مليا أمام نفسه، وهو يكرر عليها الســؤال المهم: ما الرحلة؟ وإلى أي أدب تنتمي؟ فاختار المصطلح الأقرب إلى ما يحيطه مــن أدب نثري ليكون مضمونها متســعا لقراءات مختلفة في ما بعد، غير أن السؤال الذي يثار الآن: هل يقتنع الناقد العربي الحديث بهذا المصطلح لتكون الرحلة )رســالة( في حدود تصنيفها الأجناســي؟ بدءا لا بد من الاعتراف بأن الرحلة العربية بعد ابن فضلان اتســعت الكتابة فيها لتشمل الثقافة العربية في مشرقها ومغربها بمقاصــد متعددة، ولكنها على الرغم مــن ذلك ظلت بعيدة عن أعين النقد قرونا ليســت قليلة، لأســباب كثيرة ترد إلى الإهمال الثقافي الذي أصاب الثقافة العربية في أدوارها التقليدية المتأخرة.

وحين طل العصر الحديث بمباهج رؤاه، وقدرة الترجمة التي قاربت بين المتباعدين، انكشــفت حــدود التجنيس فــي الأدب الحديث ضمن مقولات نظرية الأجناس الأدبية التي رأت أن الأدب: صنف ينقســم إلى جنسين رئيسين: الشعر، والنثر، وكل منهما ينقسم إلى أنواع، والأنواع بدورها تنقســم إلى أشكال والأشــكال تحال على أنماط، في واحدة من أهم الإجراءات التي أســهمت في تحليل ظاهــرة الخطاب الجديد، وفهم مقترباته.

تنتمي مقــولات الأجناس الأدبـــــ­ية بوصفها ضــرورات فنية إلى الخاصيــة المعيارية التي تلفت النظر إلى الســمات الفنيــة التي تتمتع بها الأشــكال الكتابية خلال التاريخ؛ ولهــــذا كان للمعيار ولما يزل أثر في تحديد النوع الأدبي فهو يستند إلى طبيعة اللغـــــة، وشكل البناء، ووجــود القصد أيضا علــى أن المعيار نفســه لم يكن اختيــارا محضا تســتعيره الذائقة النقدية بدون أن تستند إلى جملة حيثيات، ومبادئ، وتصورات عمرها مئات الســنين، لها تأثيرهــا الواضح في تقبل الأدب، وتنميــة اتجاهاته، وإنما هــو- المعيار- محصلة ثقافــة عميقة مجالها الأدب وطبيعة فلسفته.

إن النثر المعاصر بوصفه جنســا يحال على أنــواع أدبية تنتمي إلى متون تنتظم في نصوصها مجموعة سمات تركيبية، وفنية، وموضوعية تتقولب في شــكل خطابي مفــارق لغيره من خطابات الشــعر المعروف شــرطه الأســاس تكرار البنى النثرية فــي متون تنفتح علــى: المقالة، والروايــة، والقصــة، والمســرحي­ة، والرحلة، والســيرة، وغيرها، من هنا فإن عــد المقالة )نوعا( نثريا يعني امتلاكهــا مزايا نصية لا يمكن أن تتواجد في أنواع أدبية أخــــــرى، فهي بالضرورة تتبع جنســا أعلى هو النثر، وتنقسم أنواعها على أشكال واضــــــح­ة، والأشكال لا بد أن تحال على أنماط، فهي بتشكيلها الأدبي فرضـــــت ســلطتها الجمالية والدلالية، قديما وحديثا لتكون نوعا أدبيا متصـــــا بعلوم الجغرافية، والتأريخ، والاجتماع، والأدب واللغة ليكون الانفــــت­اح فيها شــكلا من أشــكال التجاور الذي يتداخل في بنية أدبية شرطـــــها التمازج المؤثر في المضمــون الذي يتيح للمتلقي فرصة العثور على أنواعية أجناســية معرفية متعددة في شــعريتها المســتعار­ة من الشــعر، ومن النثر، ومن الفنون المعروفة.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom