Al-Quds Al-Arabi

جمالية المتلاشي والقبيح في أعمال التشكيلي المغربي خليل الغريب

-

اهتــم الفــن المعاصر بالمتلاشــ­ي والقابــل للزوال والتفتت والانفلات، اهتمام مرده إلى الرؤية الساعية لإدراج واستدراج أشكال تعبيرية من اليومي والمهمش، فقــد بات «اللاشــيء فنا»، فمــا يتحكم العمــل الفني ليس جمالية وتناغم أشــــكاله، بــل الرؤية والفكرة التــي يحملها الفنــان والتي يعرضها ويســتعرضه­ا. خامات يلتقطها مــن الأرض، أينما رحل وارتحل وجال وتجول، يجمع خليل الغريب مفرداته وخاماته الفنية من الشــارع، ليركبها داخل «نص» تشكيلي وجمالي. كل صباح يصــول بجنبات بحر أصيلة ليلتقط حجارة صغيرة وتلك المتلاشــي­ات من ورق وكارتون وأسلاك حديدية ونحاســية وكتب قديمــة وأوراق مخطوطة وغيرها... يجعل من هذه المتلاشيات والِمزَق والأشياء المنفلتة من الزمن والبقايا مواد وخامات يُنشــئ منها منجزاتــه الفنيــة. عبــر تركيبها بعفويــة و«فوضى خلاقة».

لقد جعل خليل الغريب من اســمه، بعد 40 سنة من الاشتغال، اســما مهما داخل المشهد التشكيلي المغربي، إلا أنه يشــتغل في توجه مخالف للســائد في المغرب، فقــد اختار هذا الفنــان بكامل وعي واختيــار حر، أن يذهب عكس السوق وعالم التســـــو­يق والاستهلاك والاقتصــا­د، فقــد اختار عدم بيــع أعمــــــا­له، التي يعرضها للرؤية والمشــاهد­ة والتســاؤل فقط ولا غير. والأهم اختيار الفنــان عدم توقيع أعماله كلها، بذريعة أن العمل الفني مستقل بذاته يجب أن لا تدخل عليه أي أشياء خارجية تفسده أو تشوهه.

فالعمل الفني يجب أن يشــير إلــى صاحبه وليس التوقيــع، إذ أنه ما أن ينتهي الفنان من اشــتغاله على الأثر حتى يستقل عنه.

تطغى ســمة الغياب على أعمال هــذا الفنان الثائر، حيث يغيب الفنان في عمله الذي يصير - في المقابلقاب­لا للغياب بفعل الزمن، وينضاف إلى ذلك غياب أي أنطولوجيا للعمل من حيث التوقيــع أو تأريخ العمل. فهذا الفنان المنتصر للمتلاشــي، يميــل إلى جعل عمله غارقا في المفاهيمية والمرئي الذي يغدو لامرئيا بتدخل الوقت.

يجــرد، هذا الفنــان المتقشــف الزاهــد والإقليلي )المينيمالـ­ـي) minimalist­e، أعماله من أي مؤشــر زمني أو إشــاري أو عنواني وحتى اســمي، ويجعلها «عامــرة» بالفراغ، الذي يغلب على معظم مســاحتها، ما يجعلهــا قابلة للتلاشــي مثلها مثــل خاماتها التي تتكوّن منها. ولا يوثقها - يخلّدها- ســوى بالصورة الفوتوغراف­ية باعتــــــ­بارها الأداة التي واكبت عالم الفن المعاصــر ومنجزاته نحــو تخليدها فــي الزمن والوجود.

وتكمن الإقلاليــ­ة والزهد في أعمــال خليل الغريب أيضا في نســبة الألوان التي يستعين بها في اشتغاله على الأعمال، فاللون يحضــر بكميات قليلة جدا، حتى لا يؤثــر على المرجو من العمل الفنــي تبليغه، بل حتى لا يكون هناك تدخل كامل فــي الخامات، إلا بإضفاء ع لمسة عابرة وقابلة للزوال عليها، ويقول الفنان في هذا الصدد: «إن ألواني الشخصية باهتة وحزينة وهامدة بسبب إحساس دائم بالارتياح لها. الاستثناء الوحيد في هذا الباب هو اســتخدامي، لبعض خيوط الحرير. وقد فسر أدمون عمران المالح ســبب ذلك كونه حنينا إلى عالم الأم وتكريما لها. فأنا أولعت بالتشــكيل وأنا طفل صغير نتيجة لمشــاهدتي وافتتاني بمطرزات أمي اليدوية، حيث كانت تنجز صــورا وتنميقات بالحرير على الأثواب .» ليــة

القبح جمالا:

لقد انشــغل الفن الحديث بإعادة صياغة أشــكال الطبيعــة وظواهرها بشــكل ذاتي وجوانــي، بينما يســعى الفن المعاصر إلى جعــل الطبيعة حاضرة في العمل الفني بشكلها الخام بلا تدخل ولا إعادة تركيب، وبــدونأيل­مســةتغييـ­ـر وتبديل وتحويل، ليس نقلا بــل محاولة في إبــراز المســكوت عنــه بخصوصها واللامرئي فيهــا... مــا يجعلنا نقــف فــي أحايين كثيــرة أمــام مــا نصطلح عليــه بـ « جما القبح».

فلقــرون ظــل المجتمع الفني يعتقد أن قواعــدالج­مــالكونية، إذ اعتبر الجميــل مخالفا للقبيــح ولا تربطهما أي علاقة ســوى علاقة التضــاد والتنافر. وإن كانــت الطبيعة تحتمل فــي ذاتها الجميــل والقبح، فــدور الفنان هو تحويل كل ما هو قبيح إلى جميل. بينما نقف في فلسفة الفن المعاصرة، على تجاوز ملحوظ لهذا التصور الفني نحو براديغم مغاير، ينظر منذ القرن الماضي، إلى كون القبح أو الجميل شــيئا واحدا، إذ «يكفي النظر العميق لشــيء مهمل، ليصيــر ذا قيمة»، أو لعل هــذه الرؤية انطلقت مع غويا ورســوماته الصادمة، عبر تصويره للرعب في مسعى منه للإشــارة لكون الجمال والقبح لا حدود بينهما.

يتمثل الرعب في أعمال الغريب في تلك الصدمة التي تتولد في ذهن المتلقي وهو يواجه الخامات الاعتيادية والمتلاشية، التي يعتبرها أمورا «قبيحة» يتخلص منها بإلقائهــا في المطارح والأزقة. فهــذا الفنان يروم جعل المتلقــي يعيد النظر فــي رؤيته للعالــم وللأمور التي تحيط به، بما في ذلك البيئة التي تعرف تغيرا ســريعا ومهولا، يقود الإنسان إلى مواجهة الزوال والاندثار.

الصورة تخليد:

من جانب آخر فحينما ينقل خليل الغريب متلاشياته إلى مخزنه، حيث يستودعها إلى حين، فإنما يسعى إلى جعلها تتعرض إلى عامل الزمن داخل ورشــته وقريبا من معاينته. إذ تتراكم الخامات داخل ورشــته بشكل فوضوي. خاماته التي يبتغــي أن يجعل منها تراكيب ومركبات لأعمالــه الفنية التي تتحلل وتندثر وتختفي في آخــر المطاف، إلا أنهــا لا تموت، بل تتناســخ عبر شكل جديد من الحياة، إذ يعمد إلى تخليد «روحهــا» عبــر الفوتوغراف­يا. فقــد لعــب التصويــر الفوتوغراف­ــي الــدور الرئيســي في التمهيد إلى الفــن المعاصر، بل بــات جــزءا لا يتجــزأ منــه وأحــد ركائــزه التــي يســتند إليها لتخليــد ذاته. انطلقت أولــى التوظيفات الفنيــة للفوتوغراف­يــا باعتبارهــ­ا عملا فنيــا، مع مدرســة فن الأرض، هــذا الاتجاه الذي ســعى رواده منذ ظهوره ســنة 1960 في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكــة المتحدة، إلــى الهروب من متاهــة الأوراش والمتاحف والأروقة، في بحث عن بديل لسطوة السوق الفنية. فعمد أصحــاب هذا التيار الفني المعاصر، أمثال ماريو ميرز وربي ســميتون وبترتــران لافيي... إلى جعل الفضاء الخارجي )المحيط( وسيلتهم المعبرة عما يسمى بـ«فن- عمل»، أو ما يمكن تفسيره بأن الفن هو حصيلة ونتاج لعمل ما، «عمل يبقى أثرا للطاقة الُمجَسِّد لها». هذه الطاقة التي يمكن أن تنفلت عبر عامل الزمن والتغيّــر المحيطي، لا يتم الإبقــاء عليها خالدة إلا عبر تصويرهــا فوتوغرافيـ­ـا أو داخل شــريط تلفزيوني )سينماتوغرا­في(. تندرج أعمــال ضمن هــذه الفاعلية وهــذا التيار الفني من حيث أن الأعمال لديه تنتقل من كونها شــيئا متجســدا وماديا إلى كونها زائلة فتصير مجرد ذكرى، ليست ملكا لأحــــــد. إنها منفلتة ومنسابة في الزمن. فإن لم يكن خليــل غريب يجعل من «الهــواء الطلق» معرضا يعــرض فيه أعماله كما هــو الحال لدى فناني «فــن الأرض»، فهو ينقلها إلى المعــارض ويعيدها إلى ورشــته ليترك عوامــل البيئة تتكفــل بمحوها. بينما تحضــر الفوتوغراف­يا كأداة تخليــد، لتصير الصورة «عملا فنيا بديلا .»

المحو إظهار:

لقد قدمــت الفوتوغراف­يا للامرئــي قوته بأن يصير مرئيــا، فمــا يجعل أعمــال خليل الغريــب ذات طابع جمالــي، كونها غير متكررة وصعبــت إعادة الصياغة والتكرار. وأيضا ـ وهــذا الأهم - لكونها غير موجودة ليس باعتبارها فانية، بل باعتبارها منفلتة من ســلطة الامتلاك والاســتحو­اذ التي تفرضها الســوق الفنية. هذه الثنائية «إظهار /محو» تعطي للعمل الفني الناتج عن رؤية خلاقة من قبل الفنان، بعده الوجودي بعيدا عن الحصر والتأريخ والإمســاك. فمــا أن يصير العمل «ممحوا» حتى تختفي كل الخيوط التي تربطه بالفنان والمشاهد، ولا يبقى سوى تلك اللحظة «المقتنصة» بعين آلة التصوير.

لا يعمــد الفنان إلى أي إضافات علــى الخامات، بل يجعلها «حية» كمــا جاء بها أول مــرة، يضعها داخل إطاراته الخشبية أو يجعل منها أعمالا مستقلة بذاتها. من حيث كون العمل الفني المعاصر على عكس الحديث والكلاســي­كي، لا ينصــاع إلى أي مقاييــس وضوابط محددة سلفا. إذ أن الفنان المعاصر يسعى إلى الاشتغال على العمل الفني غير المادي واللاشــكل­ي، من حيث أنه صعب التكرار والتجســيم، في كسر لكل القواعد التي هيمنت على الرؤية الفنية في البراديغما­ت الســابقة. من هذه النقطة بالتحديد ينطلق في تراكيبه الجمالية، جاعــا إياها معرضا للمحو والاندثــا­ر والانفلات. فلا يبقى منها أي أثــر بعد أن يطالها المحو، إذ تراود الفراغ على نفســه، وتصير اســتعارة قابلة للزوال وذكرى بصرية.

فمــا يقوم بــه خليل غريب ســوى اللعــب واللهو بخاماته، التي يمتلكها لبرهة من الزمن، والتي يعشــق تعريضهــا لعوامــل بيولوجيــة وزمنية و«هشاشــة وجوديــة»، إذ يعمد الغريــب إلى جعــل المتلقي أمام تجسيد لهشاشــة العالم والإنســان لا هشاشة العمل الفني. فمســعى الفن المعاصر هو الاقتــراب من الزائل والعابر والمتلاشــ­ي، حيث أن الفنان المعاصر يســكنه سؤال البقاء والخلود والظهور والانمحاء. فقد استبدل الفنــان مفهوم الدائــم والخالد بالصيــرور­ة والفاني والمؤقت والعابر. ٭ شاعر وباحث جمالي مغربي

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??
 ??  ?? عزالدين بوركة٭
عزالدين بوركة٭

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom