Al-Quds Al-Arabi

خللٌ في بنْيَة الدولة العربية القَائِمة

-

فــي عصــر إعلامــي ســبرّاني افتراضــي يعتمد فيه علــى المعلومة الإلكتروني­ــة، صار الإنســان يتنَقَّل بكثــرة ولا يهدأ له بــال، ولا قرار في مكان واحد، كما أن المجتمع صار يتلقَّى التَّحَوّلات والتَّغَيرات، إلى حد يصعب تحديد ســلفا ما يمكن أن ينتهي إليه، فالخيارات متوفرة في البداية لكن لا نعرف النهايات.

كثير مــن الحركات الوطنيــة في العالــم العربي وفي غيره، تقــرَّر مصيره بناء على ما يقتضيه القانون الدولي، وأعراف النشــاط السياســي الدولي، إلا أن نهايات هذه الدول جاءت على غير ما كان متوقعا لها. الإنســان يعرف أين يبدأ مشــواره، ولكن قلما يدرك أين ينتهي به المطاف، ففي الســابق، أي قبل عصر العولمة الراهنــة، في العصر الصناعي، كان الإنســان يدخل المعمل والمصنع والورشة، وحتى الزراعة وهو يدرك تماما أنه ســينهي حياته هناك، مــا يعني أن الهوية في هذا الحقل من النشــاط تكاد تكون مستقرة باستقرار الإنسان في خياره الأول. يقول في هذا الصدد المفكر المعــروف، زيغمونت بومان: «إن المأزق الذي يعاني منه الرجال والنســاء، في منعرج هذا القرن )القرن العشــرين( ليس معرفــة كيف يمكنهــم إدراك هويات من اختيارهم، ولا كيف يجعلون الذين يحيطون بهم يعترفون بها. ولكن المســألة هي: أي هوية نختار، مع توخي الحذر واليقظة عندما تسحب الهوية التي تم اختيارها من السوق أو عندما تفقد ســلطاتها الجذَّابة». بمعنى آخر، الكثير من الأفراد يختارون وظائف وأعمال ويَتَمَاهُون معها وتتحدد بها هويّاتهــم، لكن قد يأتي يوم وتصبــح تلك الوظيفة أو الصناعة أو أي نشــاط آخــر، غير مجد أو يفقــد اعتباره وجاذبيته، فأي قيمة وأهمية تبقى للهوية التي ارتبطت به.

دائما الهويات لا تكتمل، فهي مشــروع مفتوح على/ ومع التاريخ. وعدم اكتمال الهوية متأت من هذا الأفق الواســع للتاريخ، الذي ينطوي على الماضي والحاضر والمســتقب­ل، والهوية ســواء أكانت للفرد أو المجتمعات والدول والأمم والحضارات تلازم هذه الأبعاد التاريخية وتتحدد بها. أما في ســياق العولمة التي تحاول أن تكثف كل أبعاد التاريخ في لحظــة المعاصرة، أي اســتحضار كافــة الأبعاد لحظة واحدة، فإن موضوع الهوية في صلتها بالدولة تســتحث الجميع إلى الالتفات للجوانب المظلمة والمنســية من تاريخ الأمم والقوميات والطوائف وأصول الجماعات البشــرية «المنقرضة»، من أجل اســتعادة الهويات الضائعة وإعادة ملامحها كســبيل إلى إحياء التاريخ في الذَّات البشــرية والمجتمعية.

ونعتقــد، أن ما يجري في العالــم العربي هو تعبير عن حالة ترغب فيها الشــعوب التواصل مع تاريخها الخاص، فيما الأنظمة السياســية تنبري لهذه المطالب وتعمد دائما إلى قمعها، كأفضل ســبيل إلى البقاء فــي الحكم والانفراد بالســلطة. فعندما نقــارب موضوع الهويــة بالدولة، في الوضــع العربي القائم، نجــد أن الأزمة تتمثــل في غياب القــدرة على الإفصاح عــن كل الهوية. والدولــة العربية تتعثر لهذا السبب بالذات، عندما تصر على مواجهة الهوية في كافة تجلياتها التاريخية والسياســي­ة والمســتقب­لية. الحقيقة، أن الهوية، كما نحاول أن نشــرح هنا، مثلها مثل الحداثــة في تعريف هابرماس : «مشــروع غيــر مكتمل .» وبتعبير آخر، أن الحداثة، مشــروع لا يــراد له أن يكتمل، نظــراً للتطورات والنــوازل التي لا تكف عــن التدفق في هــذا الزمن الفائق. فــدول العالم كلها عُرْضَــة للتحوّلات والتغيّرات، وفقط الدول التامة الراسخة هي التي تتحمّل التعديــل والتغيير، مع البقاء في المــكان الواحد ومراكمة التجربــة والخبــرة، الأمر الــذي يزيد مــن رصيدها في الشرعية الوطنية والدولية. وتظهر هوية البلد في الأزمات التي تجتاح بــن لحظة وأخرى الدولة التامة الراســخة، وتعــرف كيف تجتازها مع اكتســاب المناعــة والحصانة، بينما الدول الهشــة، ومنها البلدان العربيــة، فكثير منها تعاني الاختلال والانهيار، بسبب ظهور أول بوادر الأزمة، على ما يشــهد تاريخها الرّاهن، حيث بالــكاد تتعافى من الحروب والثــورات والنِّزاعات التي لا تتوقف، فاســحة المجال للتدخلات الأجنبية.

عندمــا نقارب موضــوع الدولــة العربية فــي صلتها بالهوية، نقف على حقيقة لماذا لم تتقــدم البلدان العربية ولــم تســتوعب الديمقراطي­ــة كأســاس للدولــة التامة والكاملة. فالمشكلة كما يرى المفكر اللبناني جورج قرم، أن العالم العربي منذ انســاخه عن الخلافة العثمانية دخل في دينامية الفشــل الدائم الــذي لا يتوقف، حيث تتلاحق المحن والأزمات والمعضلات التي تحول دون اكتمال هويته كدولة حديثة ودائمة، كتب المفكر اللبناني في هذا الصدد: «ومنــذ ذلك الحــن )ثمانينيــا­ت القرن العشــرين( ومن خلال الطبعات المتتالية لمؤلفي «انفجار المشــرق العربي» تحوّلت إلى مؤرخ دينامية الانحطاط والفشــل والانفجار للمجتمعات العربية، سواء داخل كل مجتمع أو بين الأنظمة العربية، بحيث أصبح الشــرخ في ما بينها يزداد سنة بعد سنة، عبر اشتداد سياسة محاور عربية متخاصمة مدمرة لاستقلال العرب وازدهارهم، حالت دون دخول المجتمعات العربية في التحوّلات الاقتصادية والعلمية والتكنولوج­ية العملاقة التــي كانت تجتــاح العالم». ما يــراه قرم، أنه تحوّل، منذ الاجتياح الإســرائي­لي للبنان صيف 1982، إلى كاتب ومحلل ومؤرخ للفشــل العربي أي لتاريخ بلا رصيد يذكر، كل شــيء يجري تدميره ومحوه وإتلافه في سياق التطور التاريخي، أو بالأحرى خارج التاريخ. فما عاشــه في لحظة لبنــان الحرب الأهلية والمواجهة مع اســرائيل، لحظة ضمن سلســلة متواصلة من اللحظات التي تعبر عن دينَاميَّة الفشــل، أرَّخ لها قرم في عشر محطّات: - الخلاف حول الســلطة العثمانية- بلْقَنَة المشــرق العربي وإنشاء الكيانــات المنفصلة - الانقلاب النفطــي - توقيع اتفاقية كامب ديفيــد 1978- 1979- المواقــف الغربية المتناقضة من الثورة الإيرانية -حرب أفغانســتا­ن ونشــوء تنظيم «القاعــدة» - توقيــع اتفاقية أوســلو ومســار الســام الفلســطين­ي الإســرائي­ل وصولالمحاف­ظينالجددإل­ى الحكم فــي أمريــكا، 11 ســبتمبر/أيلول 2001 - تحريف الانتفاضات العربية عام 2011 والحملات العســكرية ضد ليبيا وسورية - حرب اليمن أو حالة التدمير الذاتي.

الحقيقــة أن الوضع العربي يتحرك وفــق دينامية، أي مجال لحراك لا يتوقف، تصنعه أحــداث ووقائع متوالية، لا توفــر له إمكانية الاســتقرا­ر على الحقائق السياســية والاقتصادي­ة والفكرية التي تحدد الملامح الكاملة له كدولة ذات هويــة واضحة. وبتعبير آخر يفيد المعنى نفســه، أن البلــدان العربية التي انخرطت في ما يعرف في تأســيس الدولة العربية الحديثة، لا يمكنها أن تصل إلى تحقيق ذلك لأنها لا تواجه الآخر الذي هو الغرب وإسرائيل في المنطقة العربيــة ذاتها فحســب، بل لأنها تواجــه أيضا صراعات وحروبا في ما بينها وهذا أخطر، ومن ثم دخولها في لولب دينامي لا يصل بها إطلاقا إلى مرفأ الخلاص.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom