Al-Quds Al-Arabi

عن الأزمة بين تركيا والولايات المتحدة

-

دخلت العلاقة بين كل من الولايات المتحــدة وتركيا في طور غير مســبوق من التراجع خلال الأســابيع الماضية، حتــى بــدا الأمــر وكأننا ندخــل مرحلــة صراع مفتــوح بين الجانبين، الذين ضمهما على مرّ عقود طويلة تحالف وثيق.

كانــت هــذه مرحلة غيــر مســبوقة، فرغــم الاختلاف في وجهات النظر فــي كثير من القضايــا، والتصعيد الذي كان يحدث إزاء بعــض هذه الاختلافــ­ات، إلا أن الأمور كانت في الغالب تحت الســيطرة، وضمن إطار لا يؤثر بشكل أصولي على جوهــر العلاقة الاســترات­يجية، إلا أن الأمر ســرعان ما تجاوز المشــادات المعتــادة ليصل حــد التهديــد بالعقوبات والمقاطعة، بل الحــرب الفعلية، وهو ما شــكّل ارتباكاً كبيراً ليس فقــط على صعيــد الداخــل التركــي، الذي تأثــر بذلك سياسياً واقتصادياً ولكن أيضاً على صعيد الإقليم.

مثلــت هذه المســتجدا­ت فرصــة لكثير من الــدول للتعبير المعلــن أو الضمني عــن تضامنها مــع الأمريكيين في حربهم المقبلــة، التي تهدف لتأديــب الدولة التي شــبت عن الطوق. أحد أســباب ذلك الاصطفاف كان يعود لعامل المنافسة، أو الرغبة في القضاء على المثال التركي عبر طرف ثالث وبدون تورط مباشــر. لكن هذا لم يكن السبب الوحيد، بل سببا آخر كان يكمــن في إيمان أولئــك بأن الولايات المتحــدة تظل هي الطرف الأقوى، وأن كل من يضع نفســه في مواجهتها هو لا محالة خاســر، ولذلك فقد ظنوا أنه لا جدوى من الرهان على الطرف الذي سيخســر، خاصة أن ذلك سيعرضهم بالتأكيد لغضــب القوة المتحكمة في هــذا العالم. هــذه النظرة لم تكن تخلــو من محدودية وقصور، لأن مســاندة الولايات المتحدة ومناصرتها على تجاوز كل شرعية وقانون، والقيام بكل ما يحلو لها في أي وقت ومكان، لا يؤدي لحماية المصالح بقدر ما يؤدي لتقويــة النزعة الفوضويــة والتخريبية، التي تميز الإدارة الأمريكية الحالية.

كان الأوروبيــ­ون، على ســبيل المثال، يدركــون ذلك وهم يعلنون تضامنهم مــع تركيا مقابل الإجراءات الأمريكية غير المبــررة، رغــم أن بينهم وبين حــكام أنقرة ما صنــع الحداد. ذلــك التضامــن كان بغرض حمايــة الشــرعية الدولية أكثر من كونه حماية للنظام أو الشــعب التركي. هذا ينطبق أيضاً على موقفهم من الاتفاق النووي مع إيران. بمراجعة أسباب التوتر الأخير بين واشــنطن وأنقرة نجد أن جميع الأســباب لا ترقى لدرجة القطيعــة التي يهدد بها الطرف الأمريكي، بل يبدو الأمر وكأن نية كانت مبيتة للتصعيد تحت أي ذريعة.

مســألة القــس الأمريكــي أنــدرو برونســون مثــاً يبدو التركيــز عليها غريباً، فبخــاف أنه ما يزال رهــن التحقيق، هو ليس الأمريكي الوحيد المحتجــز خارج بلاده، فلماذا هذا الاصرار عليه بالذات ولماذا كل هذه الهســتيري­ا التي وصلت حد معاقبة وزير العدل التركي نفسه عبر الإعلان عن تجميد أمواله؟

اســتطاعت تركيا حســم كثير من الخلافات باســتخدام دبلوماسية بناءة، فقد أنهت التوتر المرتبط باحتجاز جنديين يونانيــن تواجــدا داخل الحــدود التركية، كما اســتطاعت بشــكل بــارع تجــاوز أزمــة عاصفــة مــع الشــركاء الروس عقب حادثة إســقاط الطائرة الشــهير. مع الولايات المتحدة نفســها ســبق أن نجحت تركيا في تجاوز عــدد من الأزمات كأزمــة تعليق التأشــيرا­ت. كل ما فات يؤكــد نجاعة الخيار التفاوضي في حالة وجود شريك يرغب في ذلك.

المشــكلة هي أن للأزمة مع تركيا محركات داخلية متعلقة بالتطورات المرتبطة بقضية الرئيس ترامب، والشكوك المثارة حول بقائه في منصبه وإكماله مدته، كما أنها مرتبطة أيضاً بمراهنة الإدارة الحاكمة في واشــنطن على كســب أصوات وتأييد المتشــددي­ن من الإنجيليين إبان الانتخابات النصفية المقبلــة فــي نوفمبر/تشــرين الثانــي، وهــي مراهنــة تقود فــي كثير مــن الأحيان لتبني مــا يبدو غير مبرر مــن الناحية الحســابية المجــردة للعلاقات بــن الدول. هــذه المجموعات المتطرفــة والمهووســ­ة التــي لا يخفــى تأثيرهــا علــى البيت الأبيض تــرى أن في احتجاز قس، بغــض النظر عما ارتكبه، إهانة، لاسيما إذا كان مصدر هذا الاحتجاز دولة مثل تركيا. كل هذه نقاط يجب أن تؤخذ بالحســبان إذا ما أردنا البحث عن تفسيرات مقنعة لذلك التصعيد غير المبرر.

نصح بعض المحللين والمنظرين القيادة التركية بالانحناء للعاصفــة ووقــف الخطابــات الشــعبوية، أي الخطابــات المنددة بالهيمنة الأمريكية، أو التي تذكّر بالهوية الإســامية أو التاريــخ العثمانــي. أصحاب هذه النصيحــة كانوا يرون أن الأمــور قــد تحل بشــكل أســهل إذا مــا قامــت تركيا في مقابــل الصوت الإنجيلي الأمريكي بتحييــد الدين والتاريخ، والتشــبث بقواعــد الدبلوماسـ­ـية العلمانيــ­ة المجــردة، إلا أنــه قــد كانت للقيــادة التركية وجهــة نظر أخــرى تعتبر أن إفراغ الصــراع من بعده الهوياتي يضعــف موقفها أكثر مما يقويه. كانــت تلك القيادة تــدرك كذلك أن التنــازلا­ت لم تفد كثيــراً الدول التي قدمتها بقدر مــا جرّتها لمزيد من الخضوع والخنــوع. تأكيداً لذلــك كتب الرئيس التركي مقــالاً دعا فيه لإعــادة تعريف العلاقــة مع الولايــات المتحدة، بمــا يجعلها علاقــة تقوم على الشــراكة المتســاوي­ة التي تخــدم مصالح الجميع. بدا الرئيس أردوغان في مقاله مؤمناً بالدبلوماس­ية والحوار لكن بدون شروط مسبقة أو إملاءات.

مجرد الحديث عن الشــراكة المتساوية كان يبدو بالنسبة لبعض الأطراف الغربية بمثابة إهانة، أولئك كانوا يفضلون أن تكون العلاقة علاقة تبعية لا يفعل فيها التابع سوى تنفيذ ما هو مطلوب منه بدون تعليق أو تعقيب.

نظــرة ســريعة علــى الاشــتراط­ات والمطالــب الأمريكيــ­ة يمكــن أن توضح بما لا يــدع مجالاً للشــك أن الأمريكيين غير راغبــن، أو غيــر قادريــن، على فهــم المخــاوف والأولويات التركية. الإفراج عن شــخص متهم بالإرهاب وبالمشاركة في محاولة انقلابية دموية ليس أمراً ســهلاً، وكذلك الانسحاب من صفقــة صواريــخ 400 المتطورة مع الجانب الروســي، فالأتــراك يحتاجونها بشــدة، خاصة في ظل انعــدام الثقة الحالي بينهم وبين الشركاء الغربيين، الذين يرفضون تقديم بدائل عســكرية لهم ولا يظهرون فــي مقابل ما يتعرضون له مــن تهديدات أي قدر مــن التعاطف اللائق. فــي الوقت ذاته فإن الضغط علــى تركيا لوقف تعاملها مــع إيران وإجبارها على مقاطعتها يبدو طلباً مســتحيلاً لكل من يعرف قليلاً من المعلومات الجيوبوليت­يكية المتعلقــة بتوزيع الطاقة، بل يبدو الأمر بمثابة دفع تركيا للانتحار أو لمعاقبة نفسها.

ليــس من الصعــب فهم ذلــك أو مناقشــته، إذا كان هناك من يرغب في الاســتماع، أمــا إذا كان التعصــب والأصولية والرغبــة في إثبات القدرة على التحكم في الكون هو الطاغي فإن ذلك يدخــل، ليس فقط، هذين الطرفين، ولكن العالم كله في متاهة ونفق مظلم.

للأزمة مع تركيا محركات داخلية متعلقة بالتطورات المرتبطة بقضية الرئيس ترامب

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom