Al-Quds Al-Arabi

في الجدال حول عسكرة الثورة السورية

- ٭ كاتب وأكاديمي من لبنان

■ كان مــن الطبيعي جداً أن تثير أول مقابلة مع المناضل رياض التــرك بعد خروجه من ســوريا، اهتماماً واســعاً وجــدالاً حاميــاً لما يحتلّ الرجــل من مكانة فــي المعارضة الســورية، وهو أبــرز وجوههــا التاريخية على يســار خارطتها السياســية. وثمة الكثير ممّا يســتحق التعليق في المقابلة التي نشــرتها «القدس العربــي» يوم 3 أيلول/ ســبتمبر الماضــي، لكنّني آثــرتُ اليوم مناقشــة موضوع «العسكرة» الذي خضّتُ فيه شخصيا للمرة الأولى بصورة مستفيضة أمام لقاء «هيئة التنسيق الوطني لقوى التغيير الديمقراطـ­ـي» في حلّتهــا الأولى، وقد انعقــد بالقرب من العاصمة الســويدية ســتوكهولم في أوائل تشرين الأول/ أكتوبر 2011 وشارك فيه عدد من نشطاء الداخل والخارج البارزين. وقد نشرتُ فحوى مداخلتي بعد اللقاء، في مقال صــدر في صحيفة «الأخبــار» البيروتية )التــي كان خالد صاغية يترأس تحريرها آنذاك( بتاريخ 16 تشرين الثاني/ نوفمبــر، تحت عنوان «ســوريا: بين العســكرة والتدخّل العسكري وغياب الاستراتيج­ية .»

كان قد ســبق لي أن علّقت على مصير الثورة السورية في وقــت مبكّر، وذلك في مقابلة أجرتها معي ديما شــريف ونشــرتها صحيفة «الأخبار» ذاتها في 22 حزيران/يونيو، أي بعد ثلاثة أشهر ونيّف من بدء الحراك السوري. سألتني ديما في نهايــة المقابلة: «ما الحلّ الواقعــي الذي يمكن أن تنتهي إليه الأزمة في سوريا؟»، فأجبتها:

«بصراحة، تضاءلت احتمالات انتقال منظّم للسلطة مع الزمن، بســبب وحشيّة القمع في ســوريا. خلق ذلك طلاقاً وعداوة شــديدين بين قسم واسع من الشــعب والسلطة القائمة. كذلك توريط الجهاز العســكري بقمع شرس، خلق لدى أرباب هذا الجهاز مصلحة عضوية بالتمسّك بالنظام، لأنّ اي ســقوط للنظام يعني محاكمتهم. لا أرى خطّ رجعة للنظام، فقــد رأينــاه يصعّد فــي القمع، ومن شــأن ذلك تجذير الحالة. رأينا أنّ كل ســاحة بدأت بمطالب إصلاحية وتعرّضــت لقمع، تحوّلت الــى المطالبة بإســقاط النظام. وحيث تعامل النظــام مع الحراك الجماهيــر­ي بذكاء مثل المغــرب والاردن، بقيت المطالب ضمن إطار الإصلاح. اليوم في ســوريا، اقلّ ما يمكن ان تقبل بــه الحركة الاحتجاجية هو تغيير الدســتور وانتخابات حرّة، لكــن لا أرى النظام الســوري بتركيبته الحالية يقوم بذلك. لو اســتمرّ الأسد في إصلاحاته التي بدأها بعد وصوله الى السلطة، لتجنّب الوضع الحالي. لا أرى ســوى احتمالين في سوريا: إما أن يســتمرّ النظام بصورة دموية أكثر وأشــرس، وباستبداد مضاعَف، او ســنكون أمام حرب أهلية. سقوط الحكم يمكن أن يكون عبــر انفجار الجهــاز المســلّح. وإذا حصل ذلك، فسندخل في حرب أهلية».

والحال أن بعد تلك المقابلة بشــهر وأسبوع جاء الإعلان عن مبــادرة عدد من المنشــقّين عن الجيش الســوري إلى تأســيس ما أســموه «الجيش الســوري الحرّ»، جاء ذلك الإعلان يثبت صحّة التقدير الذي كنتُ قد أدليتُ به. وصحّة التقدير هذه لا علاقة لها بقدرة خارقة على التنبؤ أو قراءة المســتقبل في فنجان القهوة، بــل تتعلّق بإدراك خصائص النظام الســوري وســواه من الأنظمة العربية التي تتملّك فيها الجماعة الحاكمة جهاز الدولة وتســيطر عليه سيطرةً كاملة بحيث يكون سيناريو إزاحة الحاكم من قِبَل الجهاز، مثلما حصل في تونس وبعدها في مصر، شــبه مستحيل. بل إن المصير المحتوم لأي مســعى شــعبي لإزاحة الجماعة الحاكمــة في مثل تلــك الأنظمة هو أن يواجــه قمعاً دموياً شرســاً يضعه أمام أفق الهزيمة وما يرافقها من قمع رهيب، أو المواجهة المسلّحة وبالتالي الســير نحو الحرب الأهلية مثلما حصل في ليبيا قبل ســوريا، ويكاد لا يكون ثمة ثالثٌ لهذين الاحتمالين.

وفي مقالي المســتند إلى مداخلتي أمــام اجتماع «هيئة التنسيق»، كتبتُ:

«ولو كانت للانتفاضة الســورية قيــادة تحمل تفكيراً اســتراتيج­ياً )وهنــا نلمس حدود «ثورات الفيســبوك») لعمــدت منــذ البداية إلــى مدّ شــبكات معارضــة داخل الجيــش، مع الحرص علــى الّا يتمرّد العســكريو­ن أفراداً ومجموعات صغيــرة، بل بأكبر الاعــداد الممكنة. وبغياب القيادة والاســترا­تيجية، بدأ الجنود والضباط أنفســهم بالانشقاق عن الجيش بنحو غير منظّم، وقد اتّسعت رقعة الانشقاقات في الشــهرين الأخيرين، ولا تزال تتّسع. وقد خلقت تلك الانشقاقات إرباكاً لدى المعارضة السياسية، بين من ينتقدها على انّها تهدّد بتحويل الانتفاضة عن مســارها الســلميّ، ومن يحيّي المنشــقّين لكنّه يدعوهم الى الاكتفاء برفض الاشتراك في الحملات القمعية، بدون حمل السلاح في وجه النظــام، وهي وصفة انتحارية من حقّ العســكر المنشقّين أن يسخروا منها.

ولا يتناقــض هذا المحور الاســترات­يجي مع التظاهرات الشــعبية وســلميّتها. فهنا ايضاً تجمع الحالة الســورية عناصر مــن الحالتــن المصريــة والليبية، أي الحشــود الجماهيرية السلمية والمواجهات العســكرية. فإنّ سلميّة التظاهرات الشعبية كانت ولا تزال شــرطاً أساسياً لزخم الحراك الجماهيري والمشــارك­ة الواســعة فيــه، بما فيها المشاركة النسائية. وهذا الزخم بدوره هو العامل الحاسم في اقنــاع عناصر الجيش بالتمرّد علــى النظام. والمعضلة الاســترات­يجية الأكبر في الســاحة الســورية هي كيفية التوفيق بين الحشــد الجماهيري السلمي وتوسيع صفوف المعارضة العسكرية في اتجاه توسيع رقعة الصدام المسلّح الذي بدونه لن تندحر قوى النظام المســلّحة ولن يســقط أبداً .»

هذه الخلفيّــة جعلتني أفهم الكلام الــذي جاء نقلاً عن رياض الترك فــي المقابلة المذكورة أعلاه على أنه إشــارة إلى غياب الاســترات­يجية الذي تأسّــفتُ له أمام المجتمعين في السويد. فقد قال المناضل المخضرم في تعداده للأخطاء التي ارتكبتها المعارضة السورية:

«الخطأ الثاني كان استســهال مقولة الدفاع عن النفس فــي وجه عنــف وبربرية النظــام، مــن دون أي رقابة أو تنظيم أو تخطيط مُحكَم. نحن مــن جهتنا في الحزب وفي إعلان دمشــق لم ننخرط في أي عمل مســلّح، ولم نرتبط بأي جهــة أجنبية، لكن غيرنا انخرط منذ البداية في العمل المسلّح، وكانت له امتدادات إقليمية ودولية. وبالتالي تقدّم الكثيرون إلى الساحة تحت مسمّيات إسلامية، وتمّت شيئا فشيئا عســكرة الثورة ومن ثم أســلمتها لصالح أجندات العديد من الدول الإقليمية الراعية للتنظيمات الإســامية المســلّحة، وهذا بدوره أدّى في النهايــة إلى الانحراف عن توجّهات الثورة الأساسية وإلى نوع من الوصاية الدولية على مؤسسات المعارضة .»

وقد قــرأ بعــض المعلّقين كلام رياض الترك على أنه أسفٌ ليس على أن العمل المســلّح تطوّر «من دون أي رقابــة أو تنظيم أو تخطيــط مُحكَم» كما قال، وهو كلامٌ دقيق وصحيح، بل وكأنّه أســفٌ على العسكرة جملةً وتفصيلاً. فــراح بعضُهم يلــوم القائــد التاريخي لجناح «المكتب السياســي» في الحزب الشيوعي السوري، «حزب الشعب الديمقراطي» لاحقاً، على أنه لم يحذّر من العسكرة ولم يعمل على تداركها. وهذا بكل بساطة بمثابة لومه على عدم الدعــوة إلى إيقاف الحراك الســوري والاستســا­م للنظام.

فكيــف بأي مُدركٍ لديناميات النضــال الثوري في وجه أنظمة إجرامية أن يدّعي أنه كان بالإمكان للثورة السورية والتظاهرات المحلّية أن تســتمرّ بل وتتوسّع في وجه نظام قرّر منذ بدء الحراك الشــعبي في درعــا أن يزجّ بالجيش في قمعه وإغراقــه بالدماء، بما أدّى إلى زيادة عدد ضحايا القمع عن الألف قتيل بعد شــهرين فقط، والمجزرة تتعاظم يوماً بعد يوم لاســيما بعد أن بلغ الحــراك في صيف 2011 حجماً بات يرى فيه النظام تهديداً جدّياً لديمومته. هذا وقد انضــاف إلى آلاف القتلى آلاف المعتقلين الذين ســوف يتم قتلهم تحت التعذيب في ظــروف جعلتهم بالتأكيد يتمنّون لو قُتلوا على الفور أثنــاء اعتقالهم، وهو المصير الذي كان ينتظر جميع الذين شــاركوا في الثــورة لو توقّف الحراك وتمكّن النظام من شنّ حملة اعتقالات انتقامية واسعة كما كان سيفعل لا مُحال.

لقد ارتكبت المعارضة الســورية الرسمية أخطاء فادحة فــي إدارتها للصراع، لكنّ تشــجيع حمل الســاح لم يكن بينها، والحال أن «المجلس الوطني السوري» ظلّ يحذّر من العسكرة لأشــهر عدّة قبل أن تُقنعه الظروف، وبعد فوات الأوان، أنه كان كمن يواجه نهراً يفيض فيناشد المياه عبثاً أن تتوقّف عن الفيضان بدل الســعي الحثيث وراء إنشاء الســدود وشــقّ القنوات كي يتمّ تحويل الفيض إلى طاقة يمكن ضبطها والاستفادة منها.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom