السينما الجزائرية في مواجهة محاكم التاريخ الأحادي )1 من 2)
أثير اليوم في الســينما الجزائرية نقاش حاد في الأوســاط الثقافيــة، على الرغم مــن انغلاقها على مجموعة من الأســماء، بعضهم وجد نفسه بين يــــــوم وليــلة مخرجا أو سيناريست، أو منتجــا دون أن يقــدم شــيئا، بل يكفــي أن تكون لــه القدرة التكوينية على ذلك، إذ لا شــيء يهمــه إلا الريع النفطي. وبعض الأفــام التاريخيــة الأخيرة أو حتــى التي يلوحــون بها، كفيلم «الأميــر»، لن تكــون إلا وفق هــذا المنطق، ولا تخــرج عن عقلية الريــع، ولا يهمهــا مــن التاريــخ إلا مــا ترضــى عنه المؤسســة المتعاليــة. فأي إخراج أفلام بعشــرات المليارات، وفي النهاية لا تتعدى العرض الشــرفي؟ هل أصبحت الدولة نفسها متواطئة إلى هذا الحد؟
بعــد أن غاب الجيــل الأول من صنّاع الســينما، مــن أمثال: لخضر حامينا، وســيد علــى معازيف، وفــاروق بلوفة، وحتى مــرزاق علــواش الذي أصبــح ينتج أغلــب أفلامه في فرنســا، وإبراهيم التســاكي، وعبد العزيز طولبي، وغيرهم، ولم يبق إلا القليل على رأسهم أحمد راشدي، يزاحمهم اليوم جيل جديد لم يعد مقتنعا بالأطروحات الســينمائية الوطنية السابقة التي لم تعد تنفع، لأنها مرتبطة بظرفية لم تعد موجودة اليوم. ويطالب هذا الجيل في جزئه الحرفي، بشــيء آخر.. بالدخول في عمق الســجال التاريخي، ثــم لا يكتفــي بالتســطيحات العامة التي تسيدت بعد فترة ما بعد الكولونيالية. ويناضل من أجل سينما أخرى أكثر تحررا ومشــاركة في إعــادة كتابة التاريخ الوطني. طبعــا هنــاك دوما الطابــور الخامــس الذي جعل من الســينما وســيلة تجاريــة ومالية لم تنشــأ منهــا إلا أفلام وطنيــة باردة بنفــس ضعف من كتبهــا أو من أنتجهــا أو من تخفــى وراءها لمصلحــة نفعية ومالية. الضحية القادمة «الأمير» بلا شــك؟ مع أن الســينما الجزائرية هي ثمرة حقيقيــة للثورة الوطنية )54- 62( خلفــت وراءها شــهداء كثيريــن، فقد فرضت نفســها منذ الخمســينيات عندما أســس السينمائي الفرنســي الجزائري، رونيــه ڤوتيي، أولى الخلايا الســينمائية لمتابعة أحداث الثورة وتوصيــل القضيــة الوطنيــة إلــى العالــم، ومؤسســات الأمم المتحــدة، ومجابهــة صور البحــر الكاذبــة، والشــمس وراحة المواطن في الجزائر، والتحضر، التي كانت تشــيعها المؤسسة الإعلامية الاستعمارية.
لكن الفعل السينمائي الحقيقي بدأ بشكل مهني مدروس في اتجاه صناعة ســينمائية حقيقية بعد الاستقلال؛ فقد تم إنشاء المركز الســمعي البصــري من طرف وزارة الشــباب والرياضة مباشرة بعد الاستقلال عام 1962، ثم ديوان الأحداث الجزائرية ومركز البث الشــعبي عام 1963. وأنشئ بعدئذ المركز الوطني للسينما في عام 1964. ولكن للأسف تم حله بعد ثلاث سنوات في عام 1967. وفي 1964 أســس المعهد الوطني للســينما الذي حُلَّ في العام نفســه، وعُوّض عنه بالمركز الجزائري للســينما الذي أعيدت هيكلته في ســنة 1968، ثم أنشــئ مخبر تحميض الأفلام بالأســود والأبيض عــام 1968، وفــي 1972 جرى عليه تطويــر ليرتقــي إلــى العمل بالألــوان بدعــم مــن وزارة الدفاع الوطني، وأضحى تابعا للمؤسســة الوطنية للإنتاج الســمعي البصري التيحلتأيضافيمنتصفالتســعينيات،ثم أنشــئ الديوان الوطني للثقافــة والصناعة الســينماتوغرافية
عــام 1969، أمــا ديــوان الأحداث الجزائريــة فقد أدمج مع الديــوان الوطنــي للثقافــة والصناعة الســينمائية عــام 1974. تمّ بعدها إنشــاء المركز الجزائــري للفن والصناعة الســينماتوغرافية عــام 1984 الذي لــم يُعمّر طويــا، فحلّ في منتصف التســعينيات. وداخل هــذه الرغبــة المحمومة للبحث عن نموذج إنتاجي ســينمائي مميز ظهرت سلســلة من الأفلام بوأت الســينما الجزائريــة مرتبة عليــا، فحققت طفــرة نوعية في الســبعينيات، انتهت إلى تأســيس الديوان الوطني للثقافة والصناعــةالســينماتوغرافية الــذيكانوراءإنتاج الكثيــر من الأفــام الوطنيــة الكبيــرة. وكان مــن محصلة ذلك الحصول على جائزة الســعفة الذهبية اليتيمــة عربيا عن فيلم «سنوات الجمر»، بإخراج المخرج العالمي لخضر حامينا.
كانــت الجزائر قد أدركت في وقت مبكر ضرورة اســتعمال السينما كوسيلة وتوعية للمساهمة في قراءة التاريخ، ولكن أي تاريخ؟ هل التاريخ الرسمي، تاريخ المنتصر، ما دام ممول الفيلم هو الدولة-الســلطة، وللدولة الحق في الترويج لأطروحاتها؟ أم التاريخ الموضوعي بكل لحظاته المشــرقة والســلبية أيضا؟ الإنســان لا يصنــع التاريخ على مقــاس، لهذا اهتمت الســينما الجزائريــة بتاريخ عام يتعلق بالمعــارك والانتصارات، فظهرت صورة الجندي الجزائــري في مثالية مطلقة منتصرا ومضحيا بالنفس والنفيس. من خلال ديكوتوميا شــكلية تغيِّب التحليل والخلافات التي مست كل الثورات العالمية.
فمن جهةٍ الخيرون الجزائريون، ومن جهة أخرى القبيحون المجرمون، وفي العادة هم العساكر الفرنسيون.
لم تخترق الســينما الحاجب الذي يغطي اللوحة الأساســية وتبــن لنــا مختلــف الاختراقات الإنســانية، إذ أننا فــي الظلم الفرنســي عموما-وهو أمر واقع-وجدنا شــخصيات عظيمة وقفت مع الثــورة وماتت من أجلها: أيفتــون، وموريس أودان، ومايو، وغيرهم. كل شيء كان يتم في دائرة مغلقة، وتم تغييب كل الخلافــات أو الرؤيــة الموضوعيــة للتاريــخ؛ لأن المخرجين الكبــار أنفســهم كانوا جــزءا من الدولــة، مناضلــن يتفهمون اشــتراطات الدولة-الســلطة. ولهذا لم يخرج تصورهم للفيلم الوطنــي عــن دائــرة الأفــام الحربيــة الخاليــة مــن أي فكرة، باستثناء الاستقلال، تنتصر فقط للمناضل الجزائري.
الوطنيــة انحصرت في فكرة الانتصار على العدو وتبيان كم كان الجزائري عظيما. وهذا-إن صح في العموم-ليس دقيقا. في الجزائر هنــاك الخائن الذي باع عرضه وتاريخه، ولكن هل كل خائن خائن؟ وكل شــهيد شهيد؟ السينما وحدها تستطيع أن تخلــق مقارباتها الجديدة وتخرج نهائيــا من خطاب الجيل الســينمائي الســابق التعميمي. لكن للأســف أصحــاب الريع المالي قتلــوا أي تطوير للســينما بعد أن وضعوهــا بين أيديهم وبدأوا يتصرفون في المال وفق حاجاتهم المباشرة، ويحاربون السينما الأخرى التي هي طور النهوض والتكوين.