Al-Quds Al-Arabi

الذاكرة ورمزية الموت في الرواية العربية

-

■ حاولــت الروايــة العربيــة المعاصــرة تمثل ومقاربة معادلة الذاتي والفردي وعلائقهما بالماضي والحاضر من خلال اســتحضار الذاكرة، باعتبارها مخزونا ذاتيــا وجماعيا، وفضاء لتأمل ومســاءلة الواقــع. إن الذاكــرة في الســرد الروائــي العربي المعاصــر تتنازعها مجموعة مــن الثنائيات: الذاتي والموضوعــ­ي، المكاني والزماني المقــدس والمدنس، وأخيرا الفرد والســلطة. ولعل المتون التي ســنمثل لهــا في هذه القــراءة تعكس تمركزا ســرديا للبطل باعتباره علامــة من علامات تمثيل الذاكرة بأبعادها التي ذكرنا سالفا.

وهكذا نجد في رواية «هنــا الوردة» لأمجد ناصر البطل يونــس الخطاط يعكــس الذاكــرة الفردية والجمعية، في جدلية تتشكل من خلال علامات هذه الذاكرة ذاتها وتمثلاتهــ­ا الرمزية. فيونس الخطاط يعتبر بؤرة الخطاب السردي، وحافزا لنمو الحكي. إن البداية في هذه الرواية ليست مجرد تدشين لفعل التواصل، بل هو تمثــل جمالي لعملية التلقي ووعي يكشــف لعبة الســرد وخفاياها، من خلال التبئيير الداخلــي على العلامة الشــخصية البؤرية يونس: «لا يعرف يونس الخطاط أنه ســيموت بعد أيام، أو يتجمــد في البيئة التي عليهــا الآن... يموت يتجمد، يتلاشى.. هذا ما ســنعرفه لاحقا، بعدما أفسدت أنا الراوي /الروائي واحدة من ذرى حبكتي الســردية وأســرارها التي يجب الاحتفاظ بهــا جيدا لمزيد من التشــويق». لكن الموت هنا سيتمثل باعتباره علامة على وجود محــدد، على ذاكرة تســتمر. ففي رواية المغاربــة' لعبد الكــريم جويطي تنبعــث الذاكرة من رماد المــوت الذي يواجه الســارد «أرى بأن الذاكرة تتلاعــب بالماضي، وتصنع شــيئا غريبــا»، بل هي حافز للوجود والاســتمر­ار، فذاكــرة الخطاط بطل 'هنا الوردة' باعتباره سليل أسرة مثقفة فعلاقة جده قوية بالســلطة وكان يمتهن فن الخط عكس حفيده الثوري المتمرد على الســلطة. علــى العكس من ذلك تتمركز ســرديات الذاكرة في المغاربــة' على الذاكرة الجماعية، ذاكرة الأمة. هكذا يؤكد المؤشــر الخطابي انتهى' الذي يدشــن بداية الخطــاب الروائي لرمزية الموت، كمــا يظهر من خــال عمى البطــل اللغافي. فالموت هنــا يرتبط بالذاكــرة الجماعيــة المرتبطة بسنوات الرصاص التي تحاول السلطة محو آثارها، إن الذاكرة حســب العنوان نفســه إعــادة صياغة 'لســرديات الأمة' إذا اســتعرنا عنوان كتاب إدريس الخضراوي. لكن ربط خطاب البداية بخطاب النهاية ونمو سيرورة الســرد، سيكشف عن انتقال الذاكرة من التمثل الفرداني إلى التمثل الجمعي، كما يكشــف عن رمزية الذاكرة باعتبارها نســقا متحولا. فيونس الخطــاط بالفعل علامة مشــحونة برمزيــة الموت. والموت الذي يتحدث عنه الســارد مــوت مضاعف وليس نهاية لجسد يوقع توقف الزمن والمأساة التي يعيشها الفرد. إنه موت رمزي أشد وقعا على الذات، لأنه يرتبط بالانفصال عن الذاكــرة ـ رمز الأمة بكل ما يحملــه اللفظ من رمزية ثقافيــة. وإذا كان البطل 'محمد اللغافي' في المغاربة' يواجه ذاكرة مثقلة برمزية الموت ومآسي الذاكرة الجمعية متمثلة في ممارسات السلطة بمختلف تجلياتيها، فيونس الخطاط في ' هنا الوردة' يجد نفســه بعد اكتمال مهمة اغتيال الحفيد الذي كلفه بها التنظيم مضطرا للهروب خارج البلاد، والانفصال عــن الذاكرة الجمعيــة الثقافية وذاكرة العشــق المتمثلة في رلى، وهو انفصال غير طبيعي، لنقل إنه بتــر جزء من الذاكرة، ما دام يوازي اختفاء مفاجئا ليونس وعدم تمكنه من إيصال الرسالة.

إن حضور الذاكرة التي يرمز لها بيونس الخطاط يشتغل كتضعيف للمعنى بتعبير ريفاتير، فهي ذاكرة تنتج أنســاقا تكرس بلاغة السرد من خلال انحراف معنى الموت ذاته عن مســاره الطبيعي، ليصبح موتا رمزيا مزدوجــا مضاعفا، يكرس ألــم الانفصال عن الذاكــرة وفقدان الهوية، كما نلفــي ذلك لدى كل من البطلين اللغافي والخطاط:

«خرج شــخص مــن جســد يونس لــه ملامحه وانفصل عنه، رغم العتمة، وهو يطلع منه، وينسلخ عنه، بلا صوت، بلا ألــم»، وهكذا فالموت يبقى رمزيا يؤشــر كما يظهر فــي خطابــي البدايــة والنهاية: )العتمــة، يتجمد فــي الهيئة... رغــم أن كلمة موت قويــة جدا، ولا تشــبه التجمــد(. إن مصير يونس هــو الهجرة بعيدا عن وطنه الأم، عائلته، عشــيقته رلى والانفصال التاريخــي عن الذاكرة الثقافية. إنه باختصــار وبدلالة الرواية انفصــال اضطراري عن الهوية والثقافة، من أجل البحث عن الوجود وإعادة إحياء مشروع الحداثة الاجتماعي. ينجح يونس في 'هنا الوردة' في تجاوز الحدود، وبالتالي تدشين حياة جديدة ومشــروع جديد، عكس شــخوص الخزان الثلاثــة )أبو قيس، أســعد ومروان( فــي 'رجال في الشمس' لغســان كنفاني تتوقف الحياة عند الحدود ويتردد الســؤال الوجودي كرجع الصــدى 'لماذا لم تدقوا جدران الخزان'، ورغم اختلاف أبعاد وأهداف الشخوص فإنها كلها تعيش أزمة اضطهاد ومعاناة.

هناك سمة خاصة لحضور الذاكرة في «هنا الوردة' وهي أنها ذاكرة المثقف، الشــاعر المرتبطة بانخراطه فــي بناء الواقع وصياغة أســئلته. فيونس ســليل أســرة مثقفة وهو شــاعر، وهو ما يبرر اختياره من قبل التنظيم للقيام بعملية اغتيال الحفيد، فضلا عن مرونتــه وطبيعة تكوين شــخصيته، فذاكرته التي يتنازعها الذاتــي والموضوعي هي التــي خولت له تمثيل دور البطولة وتنفيذ مشروع الحداثة.

أما بالنســبة لرواية المغاربة' فالذاكرة التي يؤشر إليها العنوان ذاكرة البطل والأمة في مواجهة التاريخ الدموي والســلطة وأنســاق التفكيــر الاجتماعي، التــي تكرس التخلف والاســتغل­ال، فمحمد اللغافي البطل يحيل إلى ذاكرة الأمة التي تســتوعب الماضي والحاضر. لكن ســؤال الماضي ما هو إلا مبرر لمقاربة الحاضر الهوية واســتمرار­ية ممارســات السلطة، وانغماســه­ا في الترف، التي يعمل كل بطل من أبطال الرواية علــى التصدي لهــا. وقد رأينــا أن حضور يونــس في الخطاب يتجلــى باعتبــاره ذاتا تمتلئ سيكولوجيا وصورة عن المثقف ودوره ومصيره بعد الرحيل وعلاقته المتوترة بالسلطة، وهو ما سنعاينه مع محمــد اللغافي بصورة مختلفة من زاوية المنظور والتمثل الخطابي الروائــي. ويمكن القول إن رواية المغاربة' هي رواية إدانة الواقع والذاكرة وأنســاقها الثقافيــة التــي تحيل على اســتغلال ذاكــرة الأمة المرتبطة بالتصوف، وثقافــة الأولياء من أجل قضاء المآرب الشخصية واستغلال الإنسان البسيط، ومن ثم فهي تســتحضر إطار الذاكــرة الثقافية المرتبطة بالمعتقدات وآثارها الســلبية على ما يعيشــه الفرد الأمة' اليوم: «وخصص يوم الأحد لشــفاء الناس من كل عللهم البدنية والروحية... ســمى ما يهبه الزوار فتوحا. يقبض باســتحياء ويدس مــا قبضه تحت الهيدورة التــي يقتعدها، رغم أنه تســبب في موت عديدين، لأنه أمرهم بالإقــاع عن الدواء، وبرر ذلك بأنه اختار لهم شــفاء الآخرة، وفاقم أمراض آخرين واتهمهم بفســاد الطوية ووهن التوكل وتســبب في بتر رجــل أحد أتباعــه، وقال له بأن اللــه إذا أحب عبدا ابتلاه، فإن المتشوفين للشــفاء على يده كانوا يتزايــدون ». ولا يكتفي الســارد إذن بإدانة الذاكرة المرتبطة بالســلطة التــي يعري اللغافــي مختلف ممارستها، بل يعمد إلى تشريح ذاكرة الأمة المرتبطة ببعض الممارسات التي تعيق مشروع الحداثة.

أما فــي 'أولاد الغيتــو' لإلياس خــوري فتتماهى الكتابــة الروائية بالذاكرة وتتمثلهــا ذاكرة المؤلف الضمني وذاكرة ســارد الدفاتر التــي حصل عليها الكاتب، والتــي يتحول صاحبها إلــى بطل الرواية ذاتهــا، وهي تمزج بــن ذاكرة التراث الســردي - وضاح اليمن، قصة باب الشــمس للكاتب نفســه ـ وذاكرة المكان اللد، الذي يستعيد مأساة الفلسطيني والحصار الذي يتعرض له، والذي يمثل ذاكرة المكان وترميزا لمعاناة الفلســطين­ي مع المكان والتاريخ، كما يظهر من خلال تمثل النكبة ومجزرة صبرا وشاتيلا. والملاحظ هنا على خلاف بطلي الروايتين السابقتين يونس الخطــاط واللغافــي، أن آدم حنون بطل من أبطال الواقع تكشــف ذاكرته عن أزمة هوية يعيشها الفلســطين­ي، فلكي يقتحم عالم النســاء يدعي أنه إســرائيلي ولكن ذاكرته الفلســطين­ية تهيمن على كيانه وتجعله يعيش موتا مضاعفا، كما شــهدنا مع اللغافي بســبب عمى الواقع، ومع الخطاط بســبب ممارســات الســلطة، ولذا فهو ينتحــر على طريقة الشاعر الفلسطيني حسب سارد الغيتو، أي لا يواجه الموت من داخل الفضــاء الوطن، ولا يهاجر هربا من الســلطة ورغبة في بداية مشروع جديد ولكن يهرب إلى الموت. فذاكرته ذاكرة اللد ومجازر صبرا وشاتيلا النكبة كلها تشــكل ذاكرة مثقلة موتا مضاعفا يعيشه بفعل ازدواج الهوية والبعــد عن الوطن. إنها ذاكرة موشــومة بالموت الرمزي منذ الولادة :»حين رويت لي حكاية التقاط الطفل الذي كنته من تحت شــجرة الزيتــون، فكيف تريدني أن أتذكر؟ حين لا تتذكر ابن من تكون تصبح الذاكرة خدعة، أنا لا أريد أن أســقط في فخ الذاكرة، اتركني يا أخــي أعيش حياتي، لماذا لحقت بي إلى هنا وماذا تريد مني؟».

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom