Al-Quds Al-Arabi

تلك الحياة... العظيمة البلهاء

- ٭ روائي لبناني

مرة واحدة التقيت بأسامة الدناصوري. كان ذلك في دار ميريت حيث الجلســة كانت قد بدأت قبل مجيئه. تصافحنا، لكن لا أذكر إن كنا تكلّمنا فــي ما تبقــى مــن الوقت. فقــط تلك الابتســام­ة المصاحَبــة بالابتســا­م القليــل، وهــزة الــرأس الخفيفة التــي تعني أن لدى كل منا شــيئا يقوله للآخــر، وأنه يعرفه مــن كلام الأصدقاء. هنا في مكتب الجريــدة في بيــروت كان هاني درويش، الحبيــب المشــعّ موهبة والــذي رحل هــو الآخر، كثيــرا ما يحكي عنه، بل هــو جاءنا مرة بقصائد منــه لنقرأها. لكن الوقت انقضى ولم نتكلّم، ربما هو هكذا صامت حين يكون الســاهرون كثيرين. لكننــي ما زلــت متذكرا وجهــه. هو الوجــه ذاته الــذي أراه الآن على غلاف كتاب حمدي أبوجليّل الذي أصدره هذه السنة. هنا، في الصورة، يظهر أسامة بابتسامة أعرض، وبنظرة ساخرة ملاعبة لكن لا تقوى على طيّ ما تركه موته، ومرضه قبل ذلك، من أسى بين أصدقائه. ليس لأن الموت كان مفاجئا هذه المرة، إذ أنه كان متوقّعا وماثلا على الدوام. ونحن، في ما نقرأ تلك الفصول الصغيرة من الكتاب، نــروح نفكّر كيف يمكن لمن يعرف كم بقــي له من الحياة، حاســبا الوقــت على الدوام، الوقت الباقي والوقت الذي نقص، كيف يمكن له أن يتمكن من أن يعيش ويكتب.

كتــاب حمدي أبــو جليّل أتى بعد مــا يزيد عن عشر ســنوات على رحيل أسامة. كان عليه لذلك أن يكــون مختلفا عن الرثاء الــذي يكتب على إثر الرحيــل، والذي كان قــد صار واحــدا من أنواع الكتابة الأدبية في الصحافة. إنه، الكتاب، سيرة مشــتركة لصديقــن انقطعــت بوفــاة أحدهما. وقد قصــد أبو جليّــل أن لا يقتصــر الكتاب على نصّه وحــده إذ أمدّه بنصوص عديــدة، مما كان كتبه الدناصوري في روايتــه «كلبي الهرم كلبي الحبيــب»، كما بقصائــد كان كتبهــا صديقه في مراحل مختلفة.

وقد جرى الكتاب على نســق ســردي واحد، على الرغم مــن تداخل نصــوص الكاتبين، فمرة نحن إزاء ما كان كتبه أسامة ومرّة نقرأ لحمدي. وقــد جهدتُ في الفصول الأولــى من الكتاب في أن أعــرف كيــف أميّز بين النصّــن، وبماذا. ربما كان ذلك فــي اختلاف اللغــة، كأن أعتبر مثلا أن النصوص التي تعود لــأول )الدناصوري( هي تلــك المكتوبة بالعامية المصريــة، في ما نصوص الثانــي كتبت بالفصحى. وهــذه الأخيرة لم تكن بعيــدة عن ســابقتها إذ ســيتأخر قــارئ الكتاب فــي أن ينتبــه إلــى أنــه إزاء لغتين اثنتــن. إنهما مندمجتان معا حيث لــن يرتفع جدار بين كلمتين أو جملتــن علــى نحــو ما يحــدث لنا فــي لبنان حيــث، بانتقالنا من الفصحى إلى عاميتنا، نكون ندخــل في نظام لغوي وتعبيري آخر. وســيكون علينــا أن نتهيّأ لذلك الانتقــال، من كلمة إلى كلمة أو مــن جملة إلــى جملة، فنضــع مزدوجات بين هذه وتلــك، أو فواصل. وعلــى أيّ حال فالتنقل بــن اللغتــن ميــزة فــي كتابة أبــو جليّــل الذي ســعى منها، في كتبه الأخــرى، وبينها «الفاعل» و«لصــوص متقاعدون» إلى أن يكون على أشــد القرب من شخصياته وأبطاله.

هي ســيرة للدناصــور­ي اولا، تبــدأ بتعريفنا بمــكان ولادته فــي «محلة مالك»، ودراســته في «دســوق» وغرامياتــ­ه الأولــى هناك، ثــم تعرج، مرّتــن في الكتــاب، علــى علاقته باســم عائلته الغريــب مخصصــا فصــا صغيــرا من بــن ما كتــب حمل عنــوان «إســمي». ثم ســفَر أســامة إلــى الســعودية للعمل، وعودته منهــا. ولم يغب أبدا مرضــه المنذر بالمــوت والمتدخل فــي حياته وكتابتــه معــا، والُملقــي ظــا ثقيــا حتــى على لحظات الســعادة والضحــك. ثم نقرأ مــا يتركه المرض نفســه، وليس ظلّه فقط، من تقطّع لمســار الحيــاة، ومن تعطيــل لرغباتهــا الأصلية، وليس تلك الرغبات العابرة. من ذلك مثلا دنوّ الموت عند الاقتــراب من تلــك الهاوية التي هــي نهاية العمر الافتراضي للمصاب بفشــل الكليتين عن العمل، ومنه أيضا إفصاح أسامة لصديقه أنه توقف عن أن يكون قادرا على تلبية رغبته الجنسية، إلخ.

والكتاب أيضا سيرة كتابية لأسامة، بدءا من قصائده الأولى وصــولا إلى روايته «كلبي الهرم كلبي الحبيب». فــي هذا الكتاب، كما في قصيدة «بصراحــة» انتقل أســامة «مــن موقع الشــاعر النبي، ضمير الأمة، إلى الشــاعر الإنســان الفرد الــذي لا حول لــه ولا قوة». وكان يرى أن «أشــد ما آذى الشعر وعوّقه وغيّبه عن هموم الناس هو أوهــام الحداثة وقضيتها الواهمــة»، وكان يرى أيضا أن «الحداثة نتوء، خمســن عاما من الوهم يمكن كشــطها بســهولة ليتصل مــا كتبه نجيب محفوظ «بما ينبغي أن يُكتب الآن إلخ.

ربمــا رأى أســامة أنــه تخطّى مرحلــة ما بعد الخمســن عاما التي ينبغي كشطها وإزالتها من تاريخنا السياسي والأدبي. أي أنه أول الناجين مــن العبــث الحداثــي، أو هــو مــن بــن الناجين الأوائــل. كان قــد «وصــل إلى لغته» بحســب ما كتــب حمدي أبو جليّل، لكنه «مــا أن وصل حتى مات». لم يمهلــه الوقت ليواصل ســعيه وليرى، منكســرا، كيــف أن ذاك الأمــل بالوصــول، أو الشــعور بتحقّقه، قد فشــل في السياسة وأننا، في الأدب، لم نشعد نهاية مرحلة وابتداء أخرى.

٭ كتاب حمدي أبو جليّل «الأيام العظيمة البلهاء )طرف من خبر الدناصوري( صدر عن دار ميريت في

القاهرة في 123 صفحة- 2018.

 ??  ?? حسن داوود٭
حسن داوود٭

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom