Al-Quds Al-Arabi

مأساة الحسين أم مأساة المسلمين؟

- كاتب يمني من أسرة «القدس العربي»

بمناسبة ذكرى مقتل الإمام الحسين في كربــاء، التــي تصــادف اليوم، يمكن إثارة بعــض النقاش- الهادئ والهادف- حــول طريقــة الاحتفاء وعلاقة هذه الطريقة بـ»السُّــعار الطائفــي» المحموم بين المســلمين اليوم. ويمكن الانطلاق من التساؤلات: ألم تكن كل الحروب التاريخية التي جرت باســم الحســن حروباً بينية داخل معســكر المسلمين أنفسهم، ولم تتجاوزهم إلى غيرهــم؟ لماذا لا يتم تذكر مقتل حمــزة أو الإمام علي، على سبيل المثال، كما يتم تذكر مقتل الحسين؟

هــل للأمر علاقة بنوعيــة القاتل، وهــل لأن تذكر مقتل الحســن يعني توجيه الأحقاد ضد المسلمين أنفسهم، وهو ما قد لا يتحقق حال تذكر مقتل حمــزة أو علي؟ لماذا لا يتم الاحتفاء بالإمام الحســن كما يُحتفى بالحســن؟ هل لأن الحســن مثل رمزاً تاريخيــاً في التصالح بين المســلمين، وهو ما لا يريده المســتفيد­ون من الاحتفاء بالحسين، الذي يمثل الاحتفاء بمقتله دعوة مســتمرة لـ»الثأر»؟ ألا يوظف اســم الحســن اليوم لإذكاء المزيد من الحروب الطائفية، بطريقة تخدم أحزاباً ومكونات سياسية فاسدة، للوصول إلى الســلطة، وبشكل يشغل الشــعوب بقضايا تاريخية، لإلهائها عن واقعها المرير تحت حكم هذه الأحزاب؟ وعليه: هــل يجدر بالمســلمي­ن- اليوم- مراجعــة طريقة توظيف ذكرى كربــاء، التي أُطِّرتْ لخدمة أهداف سياســية قديماً وحديثاً؟

ولكن، قبــل الخوض في التوظيف السياســي المعاصر لدم الحســن، يجدر التذكير بأن هذا الدم وُظِّف على مدار التاريــخ لخدمــة أغراض سياســية للعلويــن وغيرهم، وبشكل لا علاقة له بالمعركة التي خاضها الحسين عام 780 للميلاد، تماماً كما وُظِّف «قميــص عثمان»، لخدمة أهداف سياســية للأمويين وغيرهم، وبشــكل لا علاقة له بعثمان ودمه. باسم الحسين خاض مغامر سياسي وقائد عسكري اســمه المختار الثقفي معارك دامية تحت شعار: «يا لثارات الحسين»، الذي صِيغ على نمط شــعارات حروب القبائل العربية، قبل الإســام، من مثل: «يا لثــارات تغلب»، و»يا لثارات بكر»، التي جاء الإســام- أصلاً- لإلغائها، حيث ذكر النبــي في خطبة الوداع، يوم عرفة أن «دماء الجاهلية موضوعة»، وهو مــا يعني إلغاء فكرة «الثأر القبلي»، التي ظهرت للمســلمين في ما بعد في ثوبها الديني باسم «الثأر المقدس».

وفي معركــة أُحُد، وبعــد مقتل حمزة عــم النبي عليه الســام، وبعد التمثيل بجثته، قال النبي الكريم في لحظة حزن عميق: «لئن أظهرني اللــه على قريش في موطن من المواطــن، لأمثلن بثلاثين رجــًا منهم»، لكــن القرآن جاء ليحدد البوصلة بشــكل مثير في الآيتين من سورة النحل: «وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِين، وَاصْبِــرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّــهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِــمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْــقٍ مِمَّا يَمْكُــرُونَ»، فعفى النبي عن وحشي قاتل حمزة، وعن هند التي مثلت بجثته، في تسامٍ ندر وجوده فــي التاريخ. وبعودة إلى شــعار «يا لثارات الحسين»، يمكن القول إنه يعني ظاهرياً أن حروب المختار كانت لأجل الحسين، فيما هي في حقيقتها كانت تهدف إلى تلبية طموحات المختار السياســية بتأسيس دولة مستقلة له في العراق بعيداً عن سيطرة الأمويين في سوريا. ومنذ ذلــك التاريخ توالت الثــورات التي رفعت الشــعار ذاته لتجييش المزيد من الجند، لتحقيق مآرب سياســية لقادة تلك الثورات، في حلقات متواصلة من التوظيف السياسي لدم الحسين ومأساة كربلاء.

ولعله من المثير أن نذكر هنا أن «ثورة العباســيي­ن» ضد الأمويين كانت في جانب منها ضرباً من التجاوب مع شعار «يا لثارات الحســن»، غير أن ثورة العباســيي­ن آلت أخيراً إلى تنصيب أبي العباس السفاح خليفة للمسلمين، بدلاً من اختيار واحد من العلويين )أبناء علي(، الذين قامت الثورة باسمهم، ولأن المشــروعي­ة الدينية لثورة العباسيين كانت «راية أهل البيت من العلويين»، فقد عمل العباسيون بذكاء على تبرير عدم تسليمهم السلطة لرجل من العلويين آنذاك، بأن أسسوا لتيار فكري وفقهي يجعل العباس وأبناءه أولى بالنبي من علي وأبنائه، لأن العم أقرب عصبة من ابن العم، ليتسنى للعباســيي­ن التأسيس لمشــروعيت­هم السياسية، في فذلكة عُرفية قبلية - أصَّل لها العباســيو­ن- لا تقل عن فذلكة «أحقية ابــن العم بالإمامة بعد ابن عمه»، التي رفعها العلويون وسُــكبت بســببها-ولا تزال-دماء كثيرة، على طول الحروب الأهلية بين المسلمين قديماً وحديثاً.

يذكر المؤرخون أن أول الخلفاء العباســيي­ن، أبا العباس الســفاح، عندما «بُويع بالخلافة»، صعــد المنبر وحمد الله «الذي خصَّنا برحم رسول الله وقرابته»، حسب قوله، إلى أن قال: «رجــع الحق إلى نصابه، إلى أهــل نبيكم»، مؤكداً أن العباســيي­ن إنما ثاروا لاستراجاع «حقهم»، بقوله: «إنما أخرجتنــا الأنفة من انتزاع حقنا»، الذي كان قبل أن ينتصر العباسيون- وحسب أدبيات ثورتهم - «حق أبناء علي،» لا حق العباسيين.

ولعله من المفارقــا­ت العجيبة أن أبا العبــاس هذا لُقِّبً بـ»السَّــفاح» لكثرة ما قتل من أبنــاء عمومته من العلويين وغيرهم، باســم فكرة «الحق الإلهي»، الذي ادعاه لنفسه، بعــد أن كشــف عن أهدافــه الحقيقيــة في ســلطة بغداد ودمشق، رغم أن رايات العباسيين رفعت باسم «أهل البيت من العلويين .»

خلاصة القول: شــهد التاريخ حروباً كثيرة كان الهدف منهــا الوصول إلــى العرش على سُــلَّم من الــدم، وتحت شــعارات ســميت دينية، ولكنها في حقيقة الأمر أقرب ما تكون إلــى روح قبائل العــرب قبل الإســام، التي كانت «تصرخ» عندما تنطلق في معــارك ضد بعضها: «يا لثارات فــان». وكما هتف المهلهــل بن ربيعة «يا لثــارات كليب،» وخــاض حرباً مجنونــة أكلــت الأخضر واليابــس، قبل الإســام، فإن المختار رفع الشــعار ذاته لكن مع وضع اسم الحسين مكان اسم كليب، ليُخرج الشعار في صيغة دينية، يســتطيع بها التســتر على هدفه في التحشــيد والتجنيد لحربه التي كان يأمل من خلالها تأسيس دولته في العراق. ولــو كُتب للمختــار الثقفي أن يصل إلى هدفــه، لربما نكَّل بأولئك الذين قال إنه ثار من أجل أن يعيد الحق إليهم، تماماً كما فعل أبوالعباس السفاح، الذي قتل الكثير من العلويين، رغم أن الثورة العباسية كانت ترفع في دعايتها السياسية الدفاع عن مظلومية العلويين ضد الأمويين.

واليوم يُســتعمل اســم الحســن لغرض إثارة الأحقاد التاريخيــ­ة، وتتهــدج أصــوات منشــدي «الروضــات الحســينية»، لدغدغة مشــاعر الجمهور، واستثمار محبة الناس للحســن، ثم بعد ذلك يوجه هذا الشحن العاطفي، لمزيد من ســفك الدماء في بلاد العرب فــي العراق واليمن وسوريا وغيرها. إن الطريقة التي يجري بها تذكر الحسين، والدعوة إلى الثأر له رغم أن المختار ثأر له من قبل بقتل كل قتلته، هذه الطريقة لا تعني إلا ســفك المزيد من الدم باسم الحســن، واستهداف من يسميهم المســتفيد­ون من مأساة الحسين بـ»معســكر يزيد»، وشغل الشعوب بالحروب عن واقعها المرير.

لــن يخرج المســلمون من سلســلة الحــروب الطائفية المتواليــ­ة، إلا إذا اســتفادوا من تجربة الحســن بطريقة أخرى، غير تلك التي تشحن بها العواطف، ثم توجه للنيل من النقيض الطائفي الذي لا يتحمل أي مسؤولية عن مقتل الحسين. لن يتم التخلص من تلك الحروب الكريهة إلا إذا تم التوقف عن الاســتثما­ر في «دم الحسين»، لتحقيق مكاسب سياســية، لأحزاب يكتشــف الناس حجم فســادها وعدم أهليتها الدينية والسياسية، عندما تصل إلى السلطة باسم الحســن ودمه. على المســلمين اليوم أن يتجاوزوا مأساة كربــاء، لأنه ثبت بالتجربــة أن عدم تجاوزهــا يعني أن تتحول كل مدنهم- بشــكل أو بآخر- إلى كربلاء، وعليهم أن يدركو أن تذكر كربلاء بالطريقــة الحالية ليس أكثر من مناســبة لصب الزيت على النار، ولهم أن يتســاءلوا: لماذا شُــنَّتْ كل الحروب التي كانت باسم الحسين، ضد المسلمين عبر تاريخهم كله»؟ أليس غريباً أن كل الحروب التي رفعت شــعار «يا لثارات الحســن» كانت عبر التاريخ حروباً بين المســلمين أنفســهم؟! ألا يعني ذلك أن الجهات التي سعت لتأصيل «ثارات الحسين» دينياً هي المستفيدة من شن هذه الحروب بين المسلمين، كما ذكرنا؟

ينبغي للمســلمين اليوم للخروج مــن مأزقهم الطائفي، أن يجعلوا من كربلاء مناسبة للعفو والتسامح، مستلهمين نصوصهم المقدســة من مثل: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحســنة »، و»إنما المؤمنون إخوة »، و»اعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقــوا»، وعليهم أن يعرفوا أن قتلة الحســن قتلوا جميعاً، ولم يعد هناك من ثأر يطلب إلا عند من يخدعونهم باسم الحســن للوصول إلى السلطة، وأن حاجتهم اليوم إلى المدرســة والمستشــف­ى ومشروع المياه وتدوير عجلــة الاقتصاد، والنظر للمســتقبل تحتم عليهم أن يحولوا الحســن إلى رمز للتصالح علــى طريقة أخيه الحسن، لكي لا تتحول مأساة الحسين إلى مأساتهم الأبدية.

بالمجمــل ينبغي للمســلمين اليوم أن يعيــدوا النظر في المقولــة القديمة: «كل أرض كربلاء، وكل يوم عاشــوراء،» فقد شبعوا قتلاً وتشريداً وفرقة وحزناً، وسكبوا الكثير من الدموع، والمزيد من الدماء، باسم كربلاء وعاشوراء.

لن يخرج المسلمون من سلسلة الحروب الطائفية المتوالية، إلا إذا استفادوا من تجربة الحسين بطريقة غير تلك التي تشحن بها العواطف

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom