Al-Quds Al-Arabi

نتنياهو.. من فتحة ضيقة دخلت... ومن تلك الفتحة تخرج

- ٭ كاتب فلسطيني

*■ تروي إحدى الحكايات الشــعبية، قصة الفأر الغبي الشّرِه، الذي جاع فضمر جســمه الى ان عثر على حبة قرع وافرة اللب طرية القشــرة، فقضم من قشرها الى ان احدث فيها فتحة صغيرة مكنت جســمه النحيل مــن الولوج الى اللــب، حيث اخذ يأكل بشــراهة وينام مطمئنا ليســتيقظ ويســتانف اكل اللب ســعيدا بما اســتحوذ عليه من خير عميم. وعندما انتهى من اكل كل اللب، وامتلك جسما مكتنزا ومنتفخا عزم على الخروج من حيث دخل، فتعذر عليه ذلك، لاختلاف التناســب بين الفتحة الضيقة التي مكّنت جسده النحيف من الدخول، وحالت دون جسده الضخم والمنفوخ من الخروج. وعندما عجزت اســنانه ومخالبه عن توسيع فتحة الدخول وتوســيعها لتصبح فتحــة للخروج ايضا، حيث كانت القشــرة قــد اصبحت صلبة قاســية، ظل الفأر الغبي حبيسا داخل قشرة حبة القرع اياما واسابيع يعاني الجوع، الى ان ضمر جسمه وعاد الى حجمه السابق، ونجح في الخروج من الفتحة التي دخل منها.

محكوم على نتنياهو، )واســرائيل معــه(، ان لا يخرج من بطــن دبّابته الوثيرة الفرش، والمليئــة بالمال وباحدث الاجهــزة العصريــة، الى الهــواء الطلق الا عبــر فتحتها الضيّقة. هــذه هي قوانــن الطبيعة التي يســتحيل على اسرائيل تجاوزها او كسرها، رغم كل ما تمتلكه من عناصر القوة العسكرية والمادية.

للطبيعــة قوانينهــا الازليــة التي لا تحــول ولا تزول. والسياســة الحكيمة العاقلة هي تلك التي تتماشــى مع ما تحكم به هذه القوانين، )مع هامش ضئيل من امكانية اجراء تحسينات لمصلحة استمرار وتقدم وتطور الحياة(، في حين ان السياســة الغبية هي تلك التي تحاول عبثا كسر ايٍّ من تلك القوانين. وهذه هي بالضبط السياســة التي يعتمدها نتنياهو وحكومته اليمينية العنصرية الشوفينية.

في تاريخ صراعنا الطويل هــذا، مع الحركة الصهيونية واسرائيل، ثلاث محطات رئيسية: 1917 ، 1947 و1967 .

ـ في محطة 1917، اعطــت بريطانيا «العظمى»، (وكانت في ذلــك الوقت حقيقــة وعمليا القوة العظمــى الاولى في العالم(، للحركــة الصهيونية «وعد بلفــور» الذي ضمنته تأكيــد حق اليهود فــي تقرير مصيرهم في فلســطين، رغم ان نســبتهم لم تتجاوز خمســة بالمئة من سكان فلسطين، وسلبت الفلســطين­يين حقهم في تقرير المصير، ورأت فيهم مجــرد افراد لهم حقوق فردية، وطوائــف لها حقوق دينية وبعض مقدسات واماكن عبادة.

عــززت بريطانيــا توجهها هــذا، باســتصدار قرار من «عصبة الأمم»، (النسخة الاولى من «هيئة الأمم المتحدة،)» تم بموجبــه تكليفهــا بان تكــون هي دولة الانتــداب على فلســطين، وعززت ذلك ايضا بتضمين صك الانتداب تكليف عصبة الأمم لها بتنفيذ وعد بلفور. كانت تلك هي «الشرعية الدولية » في تلك المرحلة.

توالــت عمليــات رفــض الفلســطين­يين لوعــد بلفور وللسياســة البريطانيـ­ـة. وتخللــت ذلك عمليــات عنف وصدامات واضرابات كان اهمها اضراب العام 1936، اطول اضراب في التاريخ، واستمر ستة اشهر. وأثمر هذا النضال الفلســطين­ي، لكن ثمرته لم تكن بالحجم الذى ســعى اليه الشعب الفلسطيني.

ـ في محطــة 1947، بعد حــرب عالمية ثانيــة؛ وبعد ان تنامى وترســخ الوجود اليهودي في فلسطين، وتعزز هذا الوجــود بتنظيمات سياســية وامكانيــا­ت مالية وقدرات زراعية وصناعية، وتشــكيلات عســكرية منظمــة مدربة ومالكة لاســلحة حديثة؛ وبعد مذابــح ومحارق نازية راح ضحيتها ملايين من يهود اوروبا، تُرجمت في نهاية الحرب الى تعاطف عالمي غير مســبوق مع اليهــود؛ اعادت «هيئة الأمم المتحــدة»، (النســخة المنقحة عن «عصبــة الامم،)» تأكيد «الشــرعية الدولية» على حق اليهود في اقامة دولة يهودية في فلســطين، ولكن هذه الشرعية الدولية تراجعت في هذه المحطة عمّا قررته في شرعية محطة 1917، واعطت للفلســطين­يين ما ســلبته منهم، واعطتهم حقهم في تقرير المصير، باقامــة دولة عربية على جزء من ارض فلســطين رســمته خطوط خارطة التقســيم، بموجب القرار رقم 181 الذي صدر يوم 29.11.1947.

لم يقتنص الفلســطين­يون الفرصــة، وارتكبت قيادتهم الحماقة التي ما زلنا نعاني من ضياعها حتى يومنا هذا.

لحــق بهذه المحطة، وترتب عليها مسلســل من الاحداث الجســام: حرب واحتــال ولجوء وخيانــات ومؤامرات، ومعهــا، بطبيعة الحــال، وبموجب قوانــن الطبيعة، بدء نشوء حالات عدم قبول بهذا الواقع من الظلم، وبدء اخراج الارض الطيبة لنبتات المقاومــة، وتطورها لتصبح، لاحقا، شجرة الثورة الفلســطين­ية العميقة الجذور القوية الفروع الكثيرة الاغصان.

لم تعــد بريطانيا «عظمــى»، عمليا، مــع انتهاء الحرب العالمية الثانية. ولم تعد بريطانيا «عظمى»، رسميا وعلنيا، بعد العدوان الثلاثي على مصر، واحتلت الولايات )الدول(/ المتحدة الأمريكية هذا الموقع العالمي عمليا ورسميا. وبذكاء صهيونــي لا فائدة من انكاره، ازاحــت الحركة الصهيونية دافيد بن غوريون من مقعد قيادة اســرائيل، ونصّبت ليفي اشكول في ذلك المقعد، لكي تفتح الباب في هذا الإجراء لنقل بريطانيا من الدرجة الأعلى في سُلّم تحالفاتها، لتخصيص تلك الدرجة لأمريكا ولاســتهدا­ف وضعها على رأس سُــلّم تحالفاتها، لمواجهة قوة الزعيــم العربي الخالد، جمال عبد الناصر، الذي بــدأ بإعادة مصر الى عصر فراعنتها العظام، وإعادة الــروح الى الامة العربية، وإعــادة مبادئ الحرية ودحــر الاســتعما­ر والظلم الى اســيا وافريقيــا وأمريكا اللاتينية. ووصلت اســرائيل، الى مشارف المحطة الثالثة، «مدججة» بتحالف مع أمريكا.

ـ في محطة 1967، بعد هزيمة ساحقة لبريطانيا )انطوني ايدن(، وفرنســا )غي مو ليه(، واســرائيل )بن غوريون(، تغير شكل العالم.

× بريطانيا، بفضل كل ما فيها من عناصر القوة المتغيرة وعناصر القوة الثابتة، بقيت دولة مركزية في اوروبا وفي العالم، ومعززة بدول الكومنويلث.

× فرنسا، بفضل كل ما فيها من عناصر القــوة المتغيرة وعناصر القوة الثابتة، بقيت دولة مركزية في اوروبا وفــي العالم، ومعززة بالدول الفرانكوفو­نية.

× الحركــة الصهيونيــ­ة واســرائيل، وبســبب انعدام امتلاكهــا لأيٍّ من عناصر القوة الثابتة والدائمة، وبســبب اقتصــار عناصر قوتهــا المتغيرة على عنصــر التحالفات، وبســبب كونها طارئــة على المنطقــة، لجــأت الى وضع كل مــا لديها، وكل الــدور الذي يمكــن لهــا ان تلعبه، في الســلة الأمريكية الطامعة فــي وراثة كل مــا هيمنت عليه الامبراطور­ية البريطانية ســابقا. وابتلعت اسرائيل بفضل الدعم الأمريكي غير المحدود، خمسة اضعاف ما كان حجمها: كل شبه جزيرة سيناء المصرية، وهضبة الجولان السورية، وكل الضفة الغربية الفلسطينية وقطاع غزة.

كان طبيعيا، والحال كذلك، ان تتقيّأ/تنسحب من سيناء، وان تتفاوض لـ«النزول» من هضبة الجولان السورية نخلص من كل هذا الى قناعة كاملة: انتشــرت في اســرائيل وفي فلســطين وفي العالم، ما بين عام النكبــة )1948( وعام النكســة )1967(، مقولة ان «اسرائيل هي جيش له دولة». وانتشرت في اسرائيل وفي فلسطين وفي العالم، ما بين عام النكسة )1967( وايامنا هذه مقولة ان «اســرائيل هي مستوطنون لهم جيش، ولجيشهم دولة .»

هذه معــادلات عرجاء، قد تحقق مكاســب وانتصارات في غفلة او غفلات من الزمن، لكن الخاتمة محســومة: هذه منطقة عربية، هي كذلك منذ الاف السنين، وهي كذلك لآلاف مقبلة من السنين.

ليــس لنتنياهــو، آكل القرع الســمين، من مخــرج، إلّا بمغادرة الدبابة التي هي خطر علينا بمقدار ما هي سجن له.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom