Al-Quds Al-Arabi

عن السفر... وأجنحة الكتابة

-

أديــن لبعض المــدن بالكثيــر، لجمالهــا وعمقهــا وتاريخها، بتقاطعها مع تلك اللحظة النفســية الخاصــة غير العادية، التي زرتهــا فيها. وقد أعطاني الســفر الكثير، وأهم مــا أعطاني إياه تلك الكتــب التي نمت في رحــم المدن التي زرتهــا، وكتبتها بعد ذلك:

فــي البدايــة، حين أمضيــت عامين مــن حياتي مُدرِّســا في الســعودية، في منطقــة )القنفــذة(، ومعايشــتي عذابات تلك المنطقــة التي كانت تنقلــب إلى موت فتختطف أطفــالا أعلِّمهم، أو مدرســن أزاملهم، بسبب الملاريا والسّلّ، وكل تلك الأمراض التي كانت مستوطنة هناك في تلك الأيام.

تلك التجربة، أعطتنــي روايتي الأولى )براري الحُمّى(، التي قلــت عنها: كان علــيّ أن أفهم عذاب الآخريــن وأكتب عنه حتى أفهم عذابي أكثر. ومن يعرف، إن كنت سأصبح روائيا أم لا، لو لم أذهب إلى هناك وأكتب تلك الرواية؟

بعــد ذلــك، ولزمن امتــد، أعطتنــي بعــض المــدن الكثير من القصائــد، بيروت أولها، ثم اليمن، وعــدن بالذات، وفي أحيان أخــرى حمل بعــض الأصدقاء مدنهــم إليّ، فكتبــت عنها، مثل الخرطوم التــي كتبت لعــازف الجيتار القادم منهــا واحدة من قصائدي الطويلة: حوارية الغريب.

المــدن يمكــن أن تأتي إلينا كمــا نذهب إليهــا، وأحيانا تأتينا دون أن تأتي إلينا عبر أشــخاص يحملونهــا على أكتافهم، كما حمل ذلك الفلســطين­ي مدينة القدس في لوحة الفنان ســليمان منصور! وهناك أيضا: زيارة للضفة الغربية، قبل الانتفاضة الأولى بشــهور، كانت الشــرارة التي أوجدت كتابــا، أو ســيناريو، أو رواية )الأمواج البريّــة(، مع أنني حين ذهبت لم يكن مشــروع الكتابة واردا عن الزيارة، لكن الصديق )محمد كعوش(، وقد كان رئيسا لتحرير مجلــة أعمل فيها، ظل يطالبني بكتابة صفحتين للمجلة عن تلك الزيارة، وحين جلســت لأكتب الصفحتين بعد أشهر، اكتشفت أننــي كنــت أكتب كتابــا، ولــذا، ســأظل مدينا لإلحاحــه، هذا الإلحاح الذي تكرر بعد ســنوات، من صديقي الكاتب والروائي فــاروق وادي، وقــد كان يســمعني، بعد كل ســفر أتحدث عن بعض ما رأيت وعشــت، وهكذا وجدت نفســي، بتحريض منه، أكتب كتاب )الســيرة الطائرة( واكتشــف أنني أتذكر أكثر مما أنسى، وهي تجربة أدرك الآن أنها لم تعطني كتابا وحسب، بل أعطتني الذكريات التي عشــتها في ذلــك الزمن، وكان يمكن أن يكون كثير منها قد تلاشى، أو بهت، أو خبت ناره الآن.

هذا الكتاب هو تأملي الأوســع لنفســي وللعالم ولجماليات البشر في السفر، ربما.

رواية أخرى، منحني إياها الســفر؛ فذات يوم، عقب احتلال الكويــت، كنــت مســافرا، وإذا بالمطــار يعــج بمئــات الأطفــال والنساء الفلسطينيي­ن الذي لا يحملون غير وثائق سفر، وكانوا خارجين من الكويت، لا أحد يريد اســتقباله­م، وفي تلك اللحظة انفجرت كل التجارب القاســية التي عشــتها أو ســمعت عنها، لتولد في رواية )مجرد 2 فقط(، نُشــرت الروايــة، لكن نهايتها المفتوحة ظلت مشــرعة بما يتجاوز اتســاع صفحاتها الأخيرة، فأولئك الفلســطين­يون الذي لم يســتقبلهم في تلك الأيام سوى النظام الليبي، وجدوا أنفســهم، فيما بعد، مطرودين، ليعيشوا أقسى أيام حياتهم في الصحراء بين مصر وليبيا، لأن القذافي قــرر إبعادهم عن أراضــي الجماهيريـ­ـة ليعودوا إلــى وطنهم، وكأن ذلــك الوطــن تحرر علــى يديــه، ويــدي كل جماهيريات ومملكات وجمهوريات الخراب العربي، ولم يعد هنالك من عذر للفلســطين­ي أن يبقى في أرض شــتاته بعد أن حــرروا له مدنه وحقوله وبياراته.

في مطلع التســعيني­ات مــن القرن الماضي، ســافرت وفرقة «بلدنــا» التي كتبت لها كثيرا من أغانيهــا إلى أمريكا، في جولة لصالــح الانتفاضة الأولــى، وقد كانت جولة مثمــرة حقا لدعم الانتفاضة، كما أتيحت لنا زيارة خمس وعشــرين مدينة خلال ثلاثــة أشــهر تقريبا، لكن الشــيء الذي كنت مُصــرّا عليه، قبل ذهابي، أنني لن أكتب عن تجربة زيارتي لأمريكا، لا لشــيء، إلا لأننــي أرى كل من يذهب إليها من الأدباء يكتب عنها! وبالتالي، فلقد رأيــت الكثير ودفنتــه داخلي، بذلك القــرار الذي يمكن أن أصفه بأنه كان تعسفيّا.

أشــهر كثيرة مرت، وذات يوم، فــي الرابعة صباحا، نهضتُ ومضيت إلى طاولتي، كالسائر في شِعره، وليس نومه! وبقيت أكتب حتى الثانية عشرة ظهرا بصورة متواصلة، إلى أن أنهيت القصيدة الطويلة التي شكلت مع قصيدة أقصر منها، فيما بعد، ديوان )فضيحة الثعلب(.

علمتني تلــك التجربة ألا أتخــذ قرارات صارمــة إذا ما تعلق الأمــر بالكتابــة، وعلمتنــي أن أفضــل مــا يمكــن أن يحدث لك ككاتــب، أن تُولد أعمالك رغما عنك، وإذا حدث هذا فإن عليك أن تكون سعيدا، رغم كل عذابات الكتابة ومعاناتها.

خلال رحلة لدمشق الغالية، في مطلع الألفية الثالثة، التقيت صديقــا حدثني عن حكاية قرأها في الصحف، عن امرأة عجوز وعلاقتهــا بقريتهــا، وعلى غيــر عادتي، لم أدون تلــك الحكاية في عدد من الأســطر كما أفعل غالبــا، لأنني لا أثق في ذاكرتي، لكــن الحكاية الصغيرة ظلت تدور إلــى أن التقت بحكاية أصغر منها، بعد ســت ســنوات أو أكثر، حكاية جــدةٍ روتها الحفيدة، وهي قصيرة جدا. عندها أحسســت أن الحكاية الثانية أكملت الأولــى، وهنا بدأت العمل علــى الحكايتين، إلى أن اجتمعتا في رواية قصيرة تصدر العام المقبل!

وهناك بعض المدن نعيشــها كما نعيش أنفســنا، رغم أننا لم نرها بعد. غزة من النوع الأخير من هذه المدن. لــم يتــح لــي أن أزور غــزة حتــى الآن، ولكــن بعــض القراء يعتقــدون أنني عشــت عمري كلــه فيها، فقد كتبــت عنها ثلاثة كتب: ديــوان «الحــوار الأخير قبل مقتــل العصفــور بدقائق،» وديوان «مرايا الملائكة»، ورواية «أعراس آمنة.»

غزة هي الاســتثنا­ء هنا، بين كل المدن التي تعلّقت بها روحي وتعلّق بها قلبي. وبعد: في الحقيقة، كان السبب في كتابة هذا المقال، هو أنني أردت أن أتحــدث عن مدينة برلــن وما تركتْه فيّ من أثــر، برلين التي زرتها قبل أســبوع للمشــاركة في نشــاطات المهرجــان العالمي لــآداب، وكانت تلك زيارتي الثالثة لها، لكــن يبدو أن برلين لن تقبل إلا بمقال خاص بها!

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom