Al-Quds Al-Arabi

جمالية الشكل تحت رحمة القوارض

- ٭ شاعر وكاتب من المغرب

إذا ما نحن انطلقنا من رؤية تركيبية، للعناصر المؤسســة لهوية الشــكل، فإننا لا محالة ســنتأكد من اســتحالة اختزالها في مجرد قشــرة خارجيــة، مضافــة إلى بنيــة الباطــن، أو فــي محض طلاء تزيينــي، يهــدف إلى إثارة متعة حســية عابرة، تفــرح العين الرائية بالتملي في حسن بريقه، كما أن هذا الاختزال سيكشف عن حضور رؤيــة مغلوطة، تجاه كل من مفهوم الشــكل، ومفهــوم الظاهر، إلى جانب كونه سيكشــف أيضا، عن حضور رؤية تبســيطية، لا ترقى إلــى إدراك ما ينســجانه معا من علاقات جدلية مــع ذلك «النقيض» المحتجــب، الذي يتعارف عليه باســم «الباطــن»، والمعتمد عادة في تفســير الظواهــر، وأيضــا فــي تأويل ما تنطــوي عليه مــن حقائق وأســرار، علما بــأن الباطن المتخفي، هــو في الأصل الســند، الذي تتأســس عليهــا هوية الشــكل، بــدون أن يكون ثمــة بالضرورة أي نــوع من التماهــي أو التطابق بينهما، بحكم تنــوع وتعدد الوظائف والــدلالا­ت الخاصة، التــي يجترحها كل عنصر من هــذه العناصر، بطريقته المســتقلة به، وهو بصدد نحته للدلالات الكلية والمشــترك­ة الفاعلة في إخراج الشيء من ظلمة المجهول إلى ضوء المعلوم .

فالقــول الإبداعي، على ســبيل المثال لا الحصــر، يمتلك جماليته الشــكلية، التي ينزاح بها تماما عن أنســاق الأقــوال العادية، أولا، بوصفه قولا دالا، وثانيا، وهو المهــم، بوصفه العتبة الرمزية، التي يفضي شكلها إلى إمكانية إدارة حوار مغاير، حول خاصية الجمال الكامنة فيه، أي باعتباره قــولا، يحيل على تجليات وجود مختلف، ذي طبيعــة تخييلية، تنتظــر منا مقوماتها أكثر من مســاءلة، وأكثر من حــوار، بمعنى أن «الشــكل الخارجي»الذي يتقمصه الشــيء - عمــا فنيا كان أو طبيعيــا - هو في حد ذاته، مقتــرح وجود مغاير فــي لحظة كمــون نســبي، فضلا عــن كونه مؤهــا لإثارة أســئلته الفكرية أو الإبداعية، المنتميــة إلى عوالمه، التي لا تتماس بالضرورة مــع الأســئلة الخاصة بمــا ينتظم في حكــم الجاهــز والمعطى، كما أنــه مؤهل أيضــا، لتحقيق حضــور معرفــي، ذي طبيعة إشــكالية مســتقلة بقوانينها، ومهيأة لاستقطاب اهتمام تلق، يتميز هو أيضا باختلافه ومغايرته، ليس بسبب كون الذات المعنية به، مجرد شبكة من الأعصاب، تســري في أليافها شــحنات متتالية من الأحاسيس البســيطة، والمنفعلة آليا بإيماءات شكل ما، بل لأنها فضلا عن ذلك، ذات مركبــة، ومعنيــة بالتفكيــر والتعرف على قضايا وإشــكالات، تتفرد بقدرتها الاســتثنا­ئية على زرع بذور التســاؤل والاستفسار، فــي ذاكرة أجســادنا، بحجة أن ما يخالجك مــن اهتمامات، هو في الواقــع نتاج رؤيتك الذاتية والخاصة لمســارات الكينونة ودلالاتها، بمجموع ما تمتلكه هذه الكينونة من أبعاد معرفية وإنسانية.

والجدير بالذكر، أن «مســألة» الاهتمام المتعلقة بأشــكال العالم، تعني ضمنيا، مسألة فتح حوار تفاعلي مع هذه الأشكال، على ضوء ما تتمتع به مقومات الحوار، من قدرات متقدمة على تحقيق خاصية الفهم، والتفســير، والتفكيك والتركيب، حيث يؤدي وقوع أي خلل في آلية اشتغالها، إلى النيل من أهمية العناصر المساهمة في تكوين بنية الشكل /الشــيء، علما بأن «مســألة» الاهتمام /الأهمية، التي تعنينا في هذا الســياق، مقترنة باشتغال قوة الحدس، التي نهتدي ببوصلتهــا إلى المناطــق اللامرئية، والمحتجبة تحت ظاهر الشــكل، كي نكتشــف أبعادها الغامضة والمســتتر­ة، حيث يــؤدي أي تعطل محتمل في آلية اشــتغال الحدس، إلى انفلات وضياع نســبة كبيرة من حقائق الشــكل /الشــيء، ذي الطبيعــة الجميلة، المدهشــة، أو المقززة، فتظــل مجهولة، أو محتفظة بغموضهــا. لذلك، فإن الأصل في قوة وعمق التعرف، أو ضعفه وسطحيته، يعود بالدرجة الأولى إلــى قوة أو ضعــف الحدس بتلك الإشــارات الخفيــة، التي يحاول الشــكل الجميــل، أو القمــيء توصيلها إلينــا. وبصــرف النظر عن الطابــع الفطري الذي تتميز به ســلطته، فإنه يظل في أمس الحاجة إلــى التثقيف، والتربية والتكوين، من خلال تعويده على اســتجلاء أســرار الإشــكالي­ات الفكرية والجمالية، التي تعتبــر من وجهة نظر التلقي التقليدي، منتمية إلى مجال الالتباسات»الغريبة»عن حياتنا «الطبيعية».

وكمــا هو معلوم، فــإن الإبداع الفنــي، يعتبر أحــد أهم المجالات التي تنشــط فيها هذه الالتباســ­ات، التي تحتاج مقاربتها إلى توافر منهجيات متخصصة في فك شــيفرة ما ينتظــم داخلها من علاقات متشابكة، وملتبسة بين الشــكل، وما هو محتجب فيه، التي يجسد الحدس أحد أهم مكوناتها، لســبب أساسي، يتمثل في كون مجال الالتبــاس، عبارة عن عالم تركيبي ومضاعــف بامتياز، قائم الذات، ومســتقل إلى حد ما عن الواقع المعيــش، من منطلق انتقائه الدقيق، لأهم مــا يتواجد في هذا الواقــع من مقومات مهيأة ســلفا، لتجاوز حدها المألوف والعادي، إلى مســتوى، إثارتها للدهشة والتساؤل، والاســتغر­اب، وهو مســتوى موجــه بقوانــن التحــول الجمالي، المميــز لخاصية الشــكل، حيث ســيكون على الحــدس أن يتموضع فــي تضاعيفها، من أجل ضبــط الإيقاعات الجديــدة واللامتوقع­ة، التي أمســت عليها مكونات الواقع المعيش، وقد حققت استقرارها، وتواجدها في قلب ديناميته التحويلية.

ولعــل طرحنــا لســؤال الأدوار التــي يقــوم بهــا الحــدس، في الإحاطــة بكيميــاء الشــكل، يســتمد ملحاحيتــه من غيــاب قوانين إجرائية، وجاهزة، مؤهلة لمقاربة ما يتضمنه هذا الأخير من حقائق وإبــدالات، خارج مدونــة القوانين المســكوكة، المتداولــ­ة عادة على الصعيد الأكاديمي، التي لن تفي بالكشف عن تلك الأسرار المستترة هناك، بعيدا عن كل تناول ميكانيكي، وعن كل إسقاطات تشريحية وتجزيئيــة، قد يتحول معها الشــكل إلــى مجرد مؤثــث تكميلي، لا أقــل ولا أكثــر، علما بأن تواصلنا المباشــر معه بوصفــه رمزا مرئيا وملموســا، يقوم على أســاس اعتباره البنية الأســاس، التي يتولى الحدس الكشــف عن أبعادهــا، بصرف النظر عــن مرجعيتها، التي يحــدث أن تنتمــي إلــى مــوروث ثقافــي قــديم، يظل معها الشــكل «أوالمؤثــث التكميلــي!» محتفظــا براهنيته،علــى ضــوء لازمنيتــه النســبية، وكذلك على ضوء قابليته للتفاعل مع انتظارات القراءات المستقبلية، بفعل امتلاكه لإشكالات فكرية وإبداعية، تتميز بحيوية وحركية انفتاحها، بما يؤثر في توجيه مجرى الأســئلة، التي ينبني بهــا وعينــا المعرفي والجمالي، كما هو الشــأن بالنســبة لمســارات النصــوص الإبداعية، والمنجزات الفنية المتعلقــة بالفنون المعمارية، التشــكيلي­ة والموسيقية، مع العلم أن هذا الانفتاح، يكون معززا عادة بتزكيــة القراءات المتخصصة، باعتبار أن انفتــاح الدلالة على الفهم والتأويل، لا يمكن أن يتحقــق إلا على ضوء قابلية التلقي، للتصالح والتواصــل الخلاق، مع إشــارات اللغــات المقبلة باتجاهه، ســواء كانت من عمق الأزمنة القديمة أو الحديثة.

بمعنــى أن التواصل يتحقق هنا، على أســاس التفاعل المزدوج، القائم بين النص وقراءاته، ما يســتدعي توافر الخبرة بآلية تشغيل طاقــات الحدس، والجزم بفكرة اكتفاء الأشــكال المخترقة للأزمنة، بهامــش ضيق من المقروئيــ­ة، حيث يتعذر عليها اســتمالة القراءات العامــة واســتقطاب­ها، وهــو مــا يفســر عمق مــا تكابده مــن عنف إقصائي، قوامه هوس شبه عدواني بتقشير لحاء الشكل، بحثا عن نــواة لا تلبث هي أيضــا، أن تفقد فاعليتها فور زوال هيئته، لســبب واحد أساســي وجوهري، مفاده أن الشــكل، أو إن شــئت «الجلد» الذي نحن بصدد الإشــارة إليه الآن، لا علاقة لــه من قريب أو بعيد، بجلد الســيدة الأفعى، التي تتخلص منه، كلما دعت الضرورة لذلك، كي تقدمه من حين لآخر، هدية مجانية لجشع القوارض.

 ??  ?? رشيد المومني٭
رشيد المومني٭

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom