Al-Quds Al-Arabi

الإنصات إلى روح النصوص السردية العربية القديمة

- ٭ كاتب وإعلامي من المغرب

■ يرى الناقد العراقي صالح هويدي أن التراث السردي العربي لم يُكتب له أن يأخذ مكانته الحقيقية، بســبب مزاحمة الشــعر له وتقدمه عليــه، حتى صار الشــعر ديوان العرب وســجل تاريخهــم. ويؤكد أنه رغم كل محاولات التهميش والتغييب والتقليل من قيمة القص وتنفير النــاس منه، فقــد ظل يطالعنا بســحره وفرادتــه ومفارقاته في صور وأشــكال لافتة، حتــى إذا ما حلّ عصر الســرد، وكادت أن تنعقد الســيادة له علــى ســائر الفنــون الأدبيــة، وجدناه يســتنهض أقــام الباحثــن والنقــاد الذيــن راحــوا يُعيدون النظــر فيه وفي قراءته وتأمله وتوصيفه وتبويبه.

في كتــاب «فتنــة الســرد: مقاربات نقديــة في الســرد الحكائــي العربي،» يحلــل صالح هويــدي الأســباب التي أدت إلى إغفال التراث السردي العربي والانشــغا­ل بالشــعر أكثر من ســواه، فيوضــح أن بعضهــا يتصــل بطبيعــة المرويــات الحكائيــة والقصصية ذات الصبغة الوعظية أو الدينية، وانطوائها علــى عنصــر التخييل، وهو ما يجعــل منها نصوصــا ذات آلية مربكة لــرواة الحديــث والنصوص الدينيــة ورواة القصــص والأخبار التي توظــف للعظــة، وبيان أحــوال الأمم القديمــة وعواقب مــا حدث لها على حد ســواء، إلى جانب مسوّغات الخشية من الاختلاط والبلبلة والتداخل في ما بين الحقلين: التخييلــي المنفلت والتخييلي المروي، ولاســيما أن القــرآن الكريم قد تضمــن ضربا من القصــص الديني الوعظــي الذي اتخذ له خطابــا للهداية ذا شــروط وضوابط قيمية وعقديــة محــددة، قــد لا تتفــق وكثيــر ممــا وصلنا مــن نصوص حكائيــة وســردية حاولــت الانفلات مــن الســلطات والضوابط، لتدخل مناطق مــن العبث والنزق الفني والاجتــرا­ء. من هنا، جاء حظــر بعض القصــاص والكهنة الذين كانــوا يتعاطون النثر الشــائع في عصر ما قبل الإســام، لما يمثله قصّهــم من طقوس ومرويات ذات حمولــة دينية وتنبؤية لا تخلو من غرابة، إلى جانب النهي عن كثير من مظاهرها، بوصفها فعالية تســهم في بعث ممارسات الرواية القديمة لأساطير الأولين التي اختص بروايتها القرآن الكريم.

من التنظير إلى التطبيق

يلاحــظ المؤلــف أن أغلب الدراســات التي ظهرت فــي عالمنا العربي قــد اتجهت نحو التنظيري، موضحا أن هذا أمر طبيعي في الدراســات الريادية المؤسسة التي تتطلب التقعيد المنهجي الذي يسبق الدراسات التطبيقيــ­ة للنصوص. ومن ثم، يحاول الكاتب أن ينطلق من النصوص السردية الحكائية، لمقاربتها مقاربة نصية، في شيء من الحنو والتدبر والإنصات بصوتها، مع الصبر في التأمل والاستنطاق. ويشــير إلى أن الإنصات إلى روح النصوص واســتنطاق­ها قاد إلى النفاذ إلى حقيقتها التي تتجاوز قشرتها الخارجية التي توقفت عندها كثير من الدراســات التقليدية، لتكشف عن أن كثيرا من تلك السرود لم تكن نــوادر أو حكايات مرحة أو أخبارا أو حكايــات حمقى ومغفلين، بقدر ما كانت ســرودا حكائية، اتخذت من تلــك العناوين التي خلعها عليهــا القــراء والباحثــو­ن والرواة ومنشــؤوها أقنعة لتمرير رســائلها ورموزها وبناها الكنائية، بطرائــق فنيــة تحتمــل الوجهــن معــا. ويضيف الكاتــب أن تلــك الســرود بلغت آفاقــا فاقت أفق توقــع القــارئ المعاصــر، مذكّــرة إيــاه بالــروح العبثيــة وأجواء الفانتازيـ­ـا الفنية التــي كثيرا ما جرى الوقوف عليها في نصوص الســرد الغربي الحديث. ويستطرد المؤلف قائلا إنه تعامل مع الحكايات الســردية موضــع المقاربــة بوصفهــا نصوصــا ســردية تخييليــة، وليســت مرويات واقعية أو حكايات موثقة وقائع مــا، ســواء أشــارت إلى أســماء معروفة أو أســماء عامة لا ســبيل إلــى معرفــة هوياتهــا، ذلــك أن عددا غير قليل مــن هذه النصوص التــي تتناقلها كتب الأدب والســير والمســامر­ات والمجالــس والتاريــخ قــد اختلفــت في نســبتها إلــى تلك الشــخصيات تــارة، وأوردتها غفلا من الإســناد الخبــري تــارة أخرى. وإذا ســلمنا جــدلا بــأن حكايــة مــا ســعت إلى التعبير عن حــدث واقعي أو شــخصية تاريخية، فإننا على يقين بأن هذه الحكاية لن تكون ســوى نص سردي تخييلي مفارق للأصل، بما اكتسبه من تحول أملته مقتضيات الانتقال من المتن الحكائي إلى المبنى الحكائي أو الخطاب السردي كما نتلقاه.

بين الرفض والتأييد

تمهيــد الكتاب، إذن، يضــيء الطريق للدخول إلى الدراســة، لجعل القــارئ )كمــا يقول المؤلــف( يحمل تصــورا أوليــا عن واقع الســرد العربــي وضروبه وكمّــه إذا ما قيس بفــن العرب الأول: الشــعر، إلى جانب الأهمية التي اكتسبها هذا السرد لدى العرب قبل الإسلام وفي أثنائه، واختــاف المواقف منه حدة واعتدالا ومشــاركة بعض رجال العلــم وبعض الصحابة في هذا القــص، كما هو الحال في ما روي عن الصحابــي تميم الداري، أو مــا عرف عن رجال العلــم والفقه، كما هو الحــال مع ابن الجوزي الذي قص وألّف أكثــر من كتاب عن الحكايات وأخبار القصاص. ويضيف المؤلــف أن الموقف إزاء القص في التاريخ الإســامي كان يتوزع على صنفين، الأول المتشدد الرافض له، والثاني المؤيد له بشروط وليس بإطلاق.

يتناول المؤلف في القسم الأول من كتابه حكايات السرد الفانتازي، فــي حين يخصص القســم الثاني حكايات الســرد العبثي، ويركز في القسم الثالث على ما سمي بمقاربة حكايات السرد التعبيري، أي ذلك الــذي خرجت فيه الحكايــة للتعبير عن دلالة اجتماعيــة أو أخلاقية أو ثقافية أو نقدية ساخرة.

وردّا علــى الباحثين الذيــن يربطون ظهور ملامح أي فن ســردي أو درامي جديد في الأدب العربي بالتراث العربي، ويلغون التأثر بالأدب العالمــي، يقول صالح هويــدي إن وجود المرويات الســردية والأنماط الحكائية الشــفوية في تراثنا الأدبي شــيء، وما نتعاطاه اليوم ضمن تقاليد الســرد الأدبــي وفق عناصر وتقنيات فنية حداثية شــيء آخر، فهذه الألوان الســردية لا يخلو منها أدب أمّة في الشرق أو في الغرب، من دون أن يعني هذا تقليلا من تراثنا الســردي والحكائي الذي خلفه الأجداد، أو خطورة وفتنة ما لدينا من هذه المدونة السردية.

ينتمــي الكثير من الحكايات التي يحللها المؤلف إلى النوع الســردي القصير، وهو ســرد يلتقي بما يُدعى اليوم «القصــة القصيرة جدا» أو ما يســميه الكاتب نفســه «الســرد الوامض» الذي يتوسل باستخدام تراكيب مبتكرة وشــحن الملفوظ الســردي بطاقــة إيحائية، تجعل من المحمــول الســردي للمبنى الحكائــي بنيــة تعبيرية دالــة، وهو هدف لا بــد للوصــول إليــه من اختــزال للشــخصيات والأحــداث، وجعلها فــي أقل عدد ممكــن، إلى جانب تجنــب الحوارات المطولــة، والوصف غيــر الوظيفي، والشــرح الــذي لا يتطلبه العمــل الفني، لتصيــر البنية الســردية أكثــر كثافة واكتنــازا دلاليا. فــي تحليله للبنيات الســردية للمتن المــدروس، يتوقف الكاتب كثيرا عند عناصر المفارقة والإدهاش، مســتنتجا أن ظهــور نصــوص وحكايات ســردية غير قليلــة تعبّر عن المسكوت عنه في تراثنا العربي وانتشارها وإشراك كثير منها الحكام والولاة والخلفاء بوصفهم أطرافا وشخصيات محاورة فيها، إنما يعدّ تعبيــرا عن تلك الثقافة التي كانت تمتلك وعيا فائقا، قادرا على التمييز بين واقع الحياة وشــروط الإبــداع الفني، بوصفــه ضربا من ضروب التخييل والتعبير عن مكنونات الإنســان وهواجســه وأفكاره المقبول منهــا وغير المقبــول أحيانا، مادام قــدم إلى المتلقي وفق شــروط الفن والمنظور النســبي للشخصية ومســتوى وعيها وإدراكها الذي توحي بــه، مــن حمق أو خبل أو غفلــة، تماما كما لو أنهم كانــوا يطبقون على هذه الشخصيات الفنية القاعدة الشرعية في إسقاط الحكم عن الطفل أو المجنون الذي لا حرج عليه.

تبقى الإشــارة إلى أن كتاب «فتنة السرد: مقاربات نقدية في السرد الحكائــي العربي» يقــع في 312 صفحــة من القطع المتوســط، وصدر ضمن منشورات معهد الشارقة للتراث.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom