صورة إنسانية لملائكة الرحمة
فيلم «كل لحظة» للفرنسي نيكولا فيليبير
■ في كل أفلامه يصور المخرج الوثائقي الفرنســي نيكــولا فيليبيــر عالما مــا، ليبحث عن الأحاســيس والإنسانية، وليس التشــويق الوقتي الزائف. فيلمه الجديد «كل لحظة» يزج بنا في عالم مدرســة لتعليم مهنة التمريض في فرنســا، على مدار أكثر من ســتة أشــهر قضاهــا يتابع مجموعــة من طلبــة وطالبات التمريض ســنة أولــى، لتكون النتيجــة فيلما مبهرا يطرح الكثير من الأســئلة حول تعلــم هذه المهنة وما يصادف المتعلم من مشــاكل وعقبــات والضغوطات المحيطة بهذه الفئة، تتفجر أحاسيسنا مع هؤلاء وهم يجتازون الحواجز ليكونوا ملائكة رحمة.
يتكون الفيلم من ثلاثة فصول هي فصل الدراســة النظريــة والعملية داخل المدرســة ثم فصــل يتابع التطبيــق العملي في بعض المستشــفيات، ثم يختتم بفصل مناقشة التطبيق العملي.
نتعايش لنشارك الطلبة كل لحظة، التي تظهر بدقة ولكل لحظة دهشتها، في المشــهد الأول، يفتتح الفيلم على فتاة تغســل يديهــا بالماء والصابــون بحرص، ثم نــرى طابورا مــن الطلبة وهم يعيشــون اللحظــة بالمراقبــة ثم التطبيق، هذا الفعل ليس بالبسيط الهين، فبعد الغسل والتعقيم يضع الشــخص يديه في جهاز ليرى هل بقيــت أجزاء ملوثة فــي يديه، من هنا ينطلق فيليبير ليتابع ويصور الدهشــة والحيرة والخــوف في الأيام الأولى في مدرسة التمريض، نتعايش مــع نماذج مــن مختلف الأعمــار والأجناس والأديان، هذه التنوع خلق لوحة جميلة ونموذجا مصغرا للمجتمع الفرنسي، نظل مع هؤلاء داخل المدرســة قبل المغامرة المحفوفة بالخوف والقلــق عند الاتصال مــع الواقع الحقيقــي وميدان التطبيق الأكثر أهمية .
مهنة التمريض ليســت المهمة السهلة، فهناك عملية طويلة من التدريبات والتحضيرات لتعد الشــخص لأول الاتصــالات مــع عالم مــن الوجع والأجســاد المريضة والأحاسيس. بالنسبة لفيليبير، كان الهدف مــن مقاربته هــو تتبع طريقة النســاء والشــابات، وكذلك الشــباب الذين ســيواجهون ويتعاملون مع الألم وحالات الضعف البشــري، وربما لحظات الموت حين تفــارق الروح الجســد. نــرى بعضهم يرتجف فــي التجربة الأولى وهو يتعامل مع جروح الجســد، ورعشة النفس من الداخل، مهنة الرحمة والملائكة، هنا بشــر يخافون ويتعبون هي مهنة المشقة والإخلاص والإنسانية والرحمة.
ثــم يأتــي الجــزء الأخير والمهــم، حين نســتمع للمناقشــات حول التدريبــات العملية، حيث يعرض المخرج 13 مقابلة لطلبة وطالبات مع أســاتذتهم، أربع بنات يبكين ويذرفن الدموع وهن يتحدثن عن عوائق جســيمة خــال التدريبات، فنســمع قصــة الفتــاة التي تعرضــت للســرقة وفقدت حاســوبها في مرحلة حرجة قبــل الاختبارات، ونســمع مشاعر أخرى شــهدت حالات وفيات خلال التطبيق، وثالثة وجدت صعوبــة تفاهم مع الممرضة المشــرفة على تدريبها، فأحســت بالضياع، ورابعة تحدثت عن مريض شــتمها، كما نســمع متدربا في مصحة نفسية أحس أنه ربما سيسبب شرخا لمرضى تعامل معهم ثم تركهم، وآخر وجد مصاعب مرهقة كونه كان صائما.
وجــوه وشــخصيات تنفعل وتتفاعــل فلا نحس بالكاميــرا كأننا مع فيلــم روائي يزج بنــا في عوالم متباينة.
تكمن عبقرية نيكولا فيليبير كمخرج وثائقي يعرف كيف يتعامل مع نماذجه ويؤطرهم في كادر سينمائي لا يتنازل ولو للحظة عن ســينمائية اللقطة والمشهد، وهو خلال حديثه بعد العرض الخاص الذي حضرناه قــال: «أنا لا أطلب مــن النماذج التأقلم مــع الكاميرا، ولا تمثيــل أدوار ولا أزخــرف فيلمي، فقــط النماذج تكســب وجود الكاميرا، وفي مرحلة المونتاج يتكون الفيلم وقد أضحي بمشــهد أنيق وجميل لصالح مشهد يحمل أحاســيس ومشــاعر حتى لو كان أقل جودة، فالســينمائي لا يعمل بالمســطرة والحســابات وما يهمني هو تصوير فيلمي وأخذ ما أشــعر بأنه مناسب ومحسوس وليس فيلما يحدث فرقعة».
يرى فيليبير أن الفيلم يقول شــيئا ويترك أشياء للآخرين وليس المطلوب أن يقول كل شــيء ويحيط بكل نقطة، وهو ركز كثيــرا على التعلم وكســب المهنــة وفهــم روحهــا وإنســانيتها، المتدربات في البداية يشعرن برعشة داخلية في لحظات التعامل مع الجسد المريض والجــروح المتعفنة والأبدان التي قد تصــل قــذرة، وذات رائحة نتنة، وقد تضطر فتاة شــابة لغسل أعضــاء جنســية ذكوريــة، وكذلك المتــدرب قــد يحضر حالــة ولادة، ما يحســه المشــاهد خــال متابعة النماذج المتدربة أنه مع بشــر لكن لهم الرغبة لكسب المهنة من بابها الإنســاني، وليس الثقافي والديني أو التقني، هنا التعامل مع بشر أي أجساد وأرواح وليس هياكل مادية.
لم يتعرض المخرج لما يواجهه منتسبو هذه المهنة من تعنت الحكومات الفرنسية، وصراع نقابات التمريض مع الدولة لتحســن وضعهم المادي والمعنوي، هنالك شــعور بأنهم فــي الظــل لا يراهم أو يحــس بألمهم أحد، الفيلــم لم يتعــرض لنضال ومطالــب نقابات التمريض، ولكنه طرح بقوة قداســة المهنة وقسوة ما قد يحيط بطلبة المهنة. ويرى نيكولا فيليبير أن هناك شباب وشــابات لديهم الشــجاعة والتحــدي والقوة لصناعة مستقبل أفضــل، وليــس كمــا يصــور البعــض أننا في عصــر التلفــون الذكــي والجنس والشــرب، وأن المجتمع الفرنســي متنوع وقوتــه وجماله فــي هذا التنوع الثقافــي والعرقي، وهــي رســالة قويــة وإن كانــت غير مباشــرة لكنها محسوســة ومفهومــة ضد دعاة العنصريــة وكراهية الأجانب.
كاميرا المخرج الفرنســي نيكولا فيليبير، تحسُّ بما يجول في الداخل، تؤطر لنا الواقع أو جزءا منه بدون تزييف أو مبالغــة، وكل فيلم من أفلامــه درس بليغ لمعنى ومفهوم الفيلم الوثائقي، يســحبنا هذا المخرج لنشاركه ونكون جزءا من عمله، ونحن خارج الكادر الســينمائي، وهو لا يماطل أو يروغ، يطرح بسلاسة وصدق ويترك بصمته المبدعة فتتحقق المتعة البصرية والتذوق الوجداني لكل صورة.