Al-Quds Al-Arabi

في روسيا لا شيء يحدث بالصدفة... الكرملين يستعين بوثائقي لاستعادة شعبيّة بوتين

- ٭ إعلامية وكاتبة لبنانية بريطانية

للروس الذين ورثوا مجد الاتحاد الســوفييت­ي الزائل، فإن صناعة تمجيد القيــادات العليا للدولة أصبحت بمثابة جزء من طريقة العمل اليومي في قصر الكرملين - مقر القيادة الروســيّة - يديره بدقة «صانع ساعات» معتّق بغض النظر عن هويّة قاطنه. فلاديمير بوتين الذي تولى السلطة منذ عقدين تقريباً، صار تلقائياً بطل روسيا الجديد وأمل المســتقبل، الذي سيعيد للأمة الروسيّة مكانتها العالميّة التي تســتحق، فــكان لزاماً أن يشــتغل الكرملين على تنظيم صورته في ذهن المواطن لضمان شعبيّة تمنحه الشرعيّة، وتجدد له في كرسي السلطة إلى أن يأذن الله.

وللحقيقة فــإن نتائج جهود الكرملــن في هذا المجال تثير غيرة شــركات الدعاية والإعلان الأمريكيّة المعروفة بتخصصها الإعجازي في صناعة النجوم من الهباءات المتطايرة أمثال كيم كارديشــيا­ن ودونالــد ترامب، إذ أن بوتين يتمتع بثقة شــعبيّة عالية تزيد عن الـ 80 لدى الشعب الروسي معظم الوقت ولا تتدنى في أسوأ الظروف السياســيّة والاقتصاديّة عن نطاق الـ 70 لكن قراره الأخير بشــأن زيادة ســن التقاعد إلى 64 عاماً والذي أغضب قطاعات واســعة من المواطنين في المراحل العمرية المتقدمة دفع بنسب الثقّة به للتراجع إلى مستويات قياسيّة متدنيّة نسبياً )حوالي الـ 65 الأمر الذي تسبب بقلق واســع في أوساط فريق الرئيس العتيد، وتقرر على إثره البحث عن إجراءات عاجلة لاستعادة ثقة المواطنين الروس إلى مستوياتها المعتادة.

وثائقي تلفزيوني لاستعادة هيبة الرئيس

قرر الفريق المكلّف بالدّعاية في الكرملين أن اســتعادة شعبيّة الرئيس تمرّ حتماً عبر التلفزيون الروســي العام تحديداً. إذ رغم مرور سنوات كثيرة على انتشــار الإنترنت كوســيلة للاطلاع وجمع المعلومات لا ســيّما بين الشباب، فإن جيلاً كاملاً من الروس الأكبر ســناً ما زال يعتبر التلفزيون مصدر تسليته واطلاعه الأساس، وما زال يقضي ســهرات عطلة نهاية الأسبوع في مشاهدة برامجه.

وهكــذا تم التوافق على إنتاج سلســلة وثائقيّة تلفزيونيّــة تقدّم الرئيس بوتين لمواطنيه بطلاً كما يجب أن تكون شــخصية البطل الروســي المثالي - الذّكر حصراً - في المخيال الروسي العام وعرضها حلقات أسبوعيّة على القناة الروسيّة الأولى مساء كل أحد ولعدة اسابيع على أن يتم توفير الحلقات لاحقاً على موقع اليوتيوب للسماح لأوسع قطاع من المشاهدين بالاطلاع عليها.

توت بريّ ودببة مهذبة: بوتين مسافراً عبر روسيا

السلســلة الوثائقيّة التي أطلق عليها اســم صريح: «موســكو، الكرملين، بوتين» بنيت على أســاس مقاطع مصورة للرئيس بينما يقوم بجولات له عبر روســيا - أكبر دول العالم مســاحة على الإطلاق - في بيئات جغرافيّة غاية التنوع: غابات وجبــال وبحيرات وثلوج وصحار. ويظهــر بوتين خلال تلك الرحلات مثالياً تماماً كما يراد للروس أن يروه. فهو - الحلقة الأولى- يتجوّل في الغابات الســيبيريّة مرتدياً قبعة كما صيّاد ويجمع التوت البريّ ويتذوقه قبــل أن يتحدث مع مرافقه - وزير الدّفاع الروســي - عــن ضرورة جمع هذا التوت وعرضه للبيع في أسواق تعاونيات المزارعين. ثم مشاهد له وهو يمشي لمســافات طويلة في مناطق جبليّة غير مطروقة قبــل أن يأخذ قارباً في بحيرة أعالي المرتفعات ليتأمل بهدوء من خلال منظار يحمله قطيع ماعز الجبال البريّ . ويتلاقــى بوتين مع مجموعــة مراهقين في إحدى المــدن البعيدة فيقف معهم مطولاً يناقشهم ويجيب على أسئلتهم كما أبٍ حنون وحازم في آن الوقت.

يرافق المقاطع المصورة تعليقات ونقاشــات داخل الأســتودي­و يشارك فيها الســكرتير الصحافي للرئيس تغــدق المديح على الشــجاعة الفائقة واللطف الشديد في شــخصيّة بطل الأمّة الروســيّة الذي وفق تعليقاته «يتجول دون وجل من الحيوانات البريّة المفترســة وبلياقة بدنيّة عالية بينما يتعامل بلطف ملحوظ مع مرافقيه».

وقد علّق الســكرتير على ســؤال حول أخطار محتملة في مثل تلك البيئات كالدببــة مثلاً قال نصف مازح: «الدببة ليســت غبيّة بالطبع، وهي إن صادفت الرئيس في جولاته فمن المؤكد أنها ستحســن التصرّف» بينما وصف الرئيس بأنه «ذو حس إنســاني عال ليس فقط مع الشبان والمراهقين، بل هو كذلك مع الناس عموماً».

وقد عــرّج الحديث في الحلقة إلى القرار اللاشــعبي بخصوص رفع ســن التقاعد ليتحوّل مناســبة لكيل المديح للرئيس على شجاعته المطلقة في اتخاذ قرارات مؤلمة لمصلحة مســتقبل الشــعب الروسي بدل من أن يســتمر متمتعاً بشعبيّة عالية تاركاً لخلفه مشكلة صناديق تقاعد ملغومة.

ردود أفعال متعارضة لكن الجميع

إذا كان يمكــن قيــاس ردود الأفعال على السلســلة الوثائقيّــة من خلال استعراض تعليقات المشــاهدي­ن على قناة يوتيوب فهنالك انقسام واضح بين معســكرين أحدهما يشيد بالرئيس ويحتفي بشــخصيته وحضوره وعشقه لروســيا الكبيرة ، يواجهه معســكر آخر يرى في «موسكو، الكرملين، بوتين» بروباغندا مباشــرة أشــبه ما تكون بالدعاية المســطحة التــي كان ينتجها الاتحاد الســوفيات­ي أيّام الزعيم جوزيف ستالين، وتجعل منه أيقونة مقدسة فوق قدرات البشــر العاديين. وانســحب هذا التقييم المستقطب على تعليقات الإعلاميين والمعلقين المعنيين في وســائل الإعلام الروسيّة المختلفة، ورغم ذلك فإن أعداداً هائلة من المواطنين المستهدفين بالسلسلة الوثائقيّة شاهدوا الحلقة الأولى على القناة الروسية، بينما تجاوز عدد مشاهدات اليوتيوب لاحقاً عدّة ملايين خلال أيّام قليلة من بثها. وهناك ترقب ظاهر في المناقشــا­ت والتعليقات على الإنترنت لمشــاهدة الأجزاء التالية من الوثائقي بغض النظر عن انقسام الرأي بشأنها.

أين سيذهب الرئيس في الأجزاء المقبلة؟

تتصاعد بورصة التوقعات بشــأن الأماكن التي ســيزورها بوتين في بقيّة حلقات السلسلة. فالرّجل شوهد سابقاً في لقطات دعائيّة الطابع وهو يتعامل بهدوء مع نمر هائل، وهناك مشــاهد تظهره عاري الصدر بينما يحتذي صهوة جواد جامح في سهوب سيبيريا، وأخرى له بينما يكتشف آثاراً يونانيّة غارقة بالقرب من شواطىء البحر الأسود، ولذا فإن كل شيء ممكن في الأجزاء المقبلة من رحلته الروسيّة الموثقة. وكتب أحدهم معلقاً بعد البث: «بالتأكيد سنشاهد في الأجــزاء القادمة الدببة القطبيّة وهي تنحني أمــام الرئيس وتقبّل يديه.» ومع ذلك فإن الإشارات المبدئية عن نسب رضى المواطنين الروس عن رئيسهم - والتي يتابعها الكرملين بدقة متناهية - بدأت بالتعافي بعد بث الحلقة الأولى . وإذا أمكن القياس على ذلك فإن الحلقات المقبلة ربما ستساعد في العودة بتلك النســب إلى حدود الـ 75 أي بزيادة عشــر نقاط مئوية عن مستوى رضى المواطنين قبل الشروع في العرض، وهو نجاح هائل بكل المقاييس.

دروس بالجملة لخبراء الدعاية

بغض النظر عن الغايات السياســيّة المؤقتة من وراء إنتاج وعرض سلسلة الوثائقي التلفزيوني «موســكو. الكرملين. بوتين» فإن التجربة بمجملها تقدّم دروســاً هامة لخبراء الدعاية عبر العالم. إذ مــن الواضح أن الوثائقيّات تبرز مجددا كسلاح خطير لتكوين الرأي العام حول المسائل السياسيّة والاجتماعيّة والأشــخاص والأحداث لا ســيّما بين الكتل الشــعبيّة التي لا تمتلك الوقت أو القدرة للتعمق والتنقيــب وراء المعاني، لكنّها فــي المجتمعات الحديثة تمتلك صلاحيّة التصويت )ولو نظرياً( لانتخاب القيادات السياســّية. ومن الواضح أيضــاً أن جمهور المتلقين ما زال منقســماً إلى اليوم بين جيــل قديم يعتمد في تلقي معلوماته على الأدوات التقليديّة للإعلام وجيل شــاب يميل إلى منتجات الإنترنت الإعلاميّة على تنوع منصاتها، وكلاهمــا بحاجة إلى طرائق مختلفة للوصول إليه وتشكيل رأيه. «موسكو. الكرملين. بوتين» نجاح تام إلى الآن في اختراق فضاء الفريقين. في موسكو لا شيء يحدث بالصدفة قط.

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom