سيكون للضربات في سوريا ثمن باهظ
نجاحها أدخل المنظومة في حالة غرور من شأنه أن ينقلب علينا
■ الحملــة العســكرية، مهما كانــت ذكية، إذا ما انتهت بأزمة دبلوماســية لا داعــي لها مع قوة عظمــى عالمية ـ لا يمكنهــا أن تعتبر نجاحًا. حتى لو تحققت الأهداف العســكرية، فهذا فشــل لأنه في الشــرق الأوســط لا توجد وجبــات بالمجان: إســرائيل لا بد من أن تدفع الثمن عــن حقيقة أن الروس فقدوا طائرة اســتخبارات إلكترونية كان فيها 15 ضابطًا، من خبراء الاســتخبارات ورجال الفريق الجوي.
صحيــح، لن ينفــذ الروس صباح غــد عملية رد ضــد قواعد ســاح الجو، مثلمــا اقترحوا في اللجنــة الأمنيــة للبرلمان الروســي، والطائرات الإسرائيلية لن تســقطها غدًا منظومات مضادات الطائرات الروسية في ســوريا ـ ولكن إسرائيل ســتكون مطالبــة الآن أكثر مما فــي الماضي بأن تكيف ســلوكها ضد أهداف على الأرض السورية مع المصالح الروسية. النتائج واضحة في الميدان بشكل فوري: السلطات اليونانية أعلنت أمس أن الــروس أوضحوا أن في نيتهم أن ينفذوا ـ ابتداء من اليوم ـ مناورة جوية مفاجئة على مدى ســتة أيــام، في المســاحة التي بين نيقوســيا والمنطقة التي اســتخرجت مهــا أجزاء مــن الطائرة التي أســقطت في البحر أمام اللاذقية. والمعنى هو أن كل المنطقــة الجوية الكبرى هذه ســتكون مغلقة تمامًا أمام الطيران من كل نوع مهما كان. هذه هي المرحلة الأولى في النية الروسية لإغلاق منطقتين لدخول الطائرات الأجنبية ـ في منطقة الشــاطئ السوري وفي منطقة دمشق ـ ما سيقيد كل نشاط إسرائيلي جوي في هاتين المنطقتين. هذا، إذن، هو الرد الفوري على إسقاط الطائرة.
في القيــادة الإســرائيلية، مــن مكتب رئيس الأركان آيزنكوت، عبر مكتب وزير الدفاع ليبرمان ووزارة الخارجية وحتى ديــوان رئيس الوزراء نتنياهــو ـ تصببوا عرقًا بما يكفي بعد إســقاط الطائرة الروســية. ففي أعقاب اقتــراح نتنياهو على الرئيــس بوتين إرســال قائد ســاح الجو نوركين إلى روسيا كي يشرح كم كنا على ما يرام، سيســافر نوركين في الأيام القريبة إلى موسكو. وخلف الصمت «المحتــرم» الآن من جانب القيادة العسكرية ـ السياســية يختبئ حرجًا وخوفًا: لا يريد أحد أن يشــار إليه كمن طبخ هذه العصيدة المحمضة.
في ســاح الجو رفضــوا بيــان وزارة الدفاع الروسية، الذي اتهم إســرائيل بأنها قامت بعمل تلاعبي في مجال طيران طائرة روســية كي تنفذ الهجوم. فلم يكن وليس هناك قائد لســاح الجو يقر اليوم خطة عملياتية تعرض للخطر عن وعي مصلحة روســية واضحة أو حيــاة جنود روس، فما بالك عندما يدور الحديث عن عملية تستهدف تدمير مخازن عتــاد. ليس لأنه لا يمكن، بل لأنه لا حاجة: فالهجمات، كتلك التــي نفذت يوم الإثنين من هذا الأســبوع، يمكنها أن تتم من داخل أراضي إسرائيل، بعيدًا عن مســارات الطيران في شمال سوريا.
فضلاعن ذلــك، فالمنطلق في إســرائيل هو أن منظومات الدفاع الجوي السورية تتضمن أجهزة تشــخيص تلاحظ وتميــز الطائــرات الصديقة )الروســية( والطائرات المعادية )الإســرائيلية( بحيث إن الطائرة الروســية كان يفترض بها أن تظهر على الرادار السوري كطائرة صديقة. فلو لم تكن هذه الأجهزة موجودة لسقطت هناك كل يوم طائرات روسية. كما أن الادعاء الروسي بأن مسار الطيــران للطائرات الإســرائيلية تســبب في أن يفترض الرادار الســوري بأن هذه طائرة روسية هو ادعــاء غريب، إذ من المعقــول جدا الافتراض بأنه حتى لو كانت الطائرات الإســرائيلية طارت بالفعل في المســار ذاتــه كالطائرة الروســية ـ فإنها طــارت على ارتفاع أدنى بكثير وبســرعات مختلفة، وكان يفترض بالرادار أن يميز بين طائرة استخبارات وطائرة قتالية.
الروس ليسوا أغبياء، فهم يعرفون أن إسرائيل تتابع الطائرات في المنطقة ـ ولا ســيما الطائرات الاستخبارية. وبالتالي فإنه عندما تعلن إسرائيل ـ بزعــم الــروس ـ قبل دقيقة من بــدء الهجوم، فإنها تعرف بالضبط أي توجد الطائرة، ويفترض بها أن تفهم بأنها دخلــت منطقة خطيرة. كما أنها تعرف بــأن الدقيقة هي فترة زمنيــة قصيرة جدًا لغرض إطــاق الطائرة. من ناحيتهــم، لم تبذل إســرائيل الجهد اللازم وفقًا للاتفاقات لمنع الخطر على الطائرة الروسية.
لقد فهم الروس أنه بوسعهم أن يحققوا من هذه الحادثة إنجازات سياسية حيال إسرائيل، ولهذا فلم يســارعوا ليوجهــوا الاتهامات علــى الفور. اســتغرقتهم 12 ساعة لدراســة وتحليل الحدث، وبعدها جاء البيــان الحاد الذي خلق أجواء أزمة سياسية ـ عسكرية بين الدولتين.
وكانت ذروة الأزمــة مكالمة أجراه وزير الدفاع الروســي شــويغو مع وزير الدفاع الإســرائيلي ليبرمان في أثنائها اتهم إسرائيل بالمسؤولية عن إسقاط الطائرة.
لم يكن أي شــيء فــي الرد الروســي مصادفًا بالطبــع، وهو يأتي أولاوقبل كل شــيء لتقليص حجم النشاط وحرية عمل إســرائيل في سوريا. وحســب التصريحات التي انطلقت في وســائل الإعلام الروســية، فقد شــعروا فــي الكرملين أن إسرائيل ـ بتكليف من الولايات المتحدة ـ تحاول التخريب على الإنجاز الهائل الذي ســجلوه قبل يوم من الهجــوم، بالتوقيع على الاتفاق مع تركيا على إقامــة منطقة مجردة من الســاح في إدلب. إلى جانب ذلك، فــإن الروس واعون للإحباط في إسرائيل في ضوء تسويات مشابهة وقعوها معها في مســألة هضبة الجولان. فقــد أعطى الروس الأتراك إنجازات حقيقية، أما لإسرائيل فلم يعطوا إلا الوعود لإخراج الإيرانيين إلى مسافة 100 كيلو متر عن الحدود. غير أنه لا نية لدى بوتين لإخراج الإيرانيين من دمشــق، والآن يتبين أن الإيرانيين أقاموا أيضًــا مصانع لإنتاج الســاح الدقيق من تحت المظلة الجوية الروســية في منطقة اللاذقية ـ فيما يتجاهل الروس المصالح الإسرائيلية تمامًا. الفهم في إســرائيل بأننا بعنا أنفســنا للروسي بسعر زهيد أدى إلى سياســة استمرار الهجمات المكثفة في ســوريا، في كل مكان وفي كل زمان، في ظل المراعاة الدنيا للمصلحة الروسية. أما الروس الذين على أي حال يشــكون بأن إســرائيل تنفذ سياسة أمريكية، فلا يناسبهم هذا.
في حســاب متهكــم، لا يزال الــروس بحاجة ضربات إسرائيلية على مواقع في اللاذقية السورية للتعاون الإسرائيلي في ســوريا. وبالتالي، بعد ساعات طويلة من التعرق الزائد في إسرائيل، قرر بوتين أن يبرد قليلاالأجواء وأعلن أن إســرائيل ـ وإن كانــت خرقت التفاهمــات ـ ولكن هذا كان «خطأ مأساويًا .»
كما يوجــد الموضوع الرمزي أيضًــا، إذ إنه في الحادثة التي وقعت عشــية يوم الغفران تصدح دروس تلــك الحرب. فللمخطط العســكري رؤية ضيقــة ـ فهو مقــاول تنفيذ في إطــار خطة منع تهريب السلاح إلى لبنان. وبالتالي، فإن دوره في القرار متى وبأي شكل يقصف في اللاذقية هو دور ثانوي. أما القيادة السياسية التي أقرت العملية، فقد كان ينبغي لها أن تســأل الأسئلة الصحيحة وتتحمل المســؤولية. غيــر أنه مــن العملية في اللاذقية تنز رائحة معروفة جيدًا لخريجي الحرب في 1973: الاســتخفاف بالعــدو والغرور. فنحن قوة عظمى، ومــا الذي يمكن لأولئــك الروس أن يفعلوه لنا؟ نجاح الهجمات في ســوريا وجعلها عملاعاديًا أدخــل المنظومة في حالــة غرور، من شأنه أن ينقلب علينا.