Al-Quds Al-Arabi

فلسفة إدارة التغيير الدولي وهواجس المصالح الاستراتيج­ية

-

أمريكا أمام عالــم متعدّد الأقطــاب تبحــثُ فيــه عن إمكانية اســتعادة الأحاديّة القطبيّــة، وهــو أمــر يبدو مســتحيلا أمــام محاولات الاتّحــاد الأوروبــي تحقيق اســتقلالي­ة ذاتيــة، مبتعدا شــيئا فشــيئا عــن التذيّل لأمريــكا والســير فــي ركابهــا، لأنّ القيــادات الأوروبيــ­ة تفطّنــت إلى رغبة الولايــات المتحدة في الهيمنة التامّة على أوروبــا، ومحاولة تفكيك نسيجها القومي، ناهيك عن الجوانب الاقتصادية والتجاذبات المالية والتجارية التي أفرزت خلافات ظاهرة وخفية بين أغلب الدول الأوروبية وأمريكا، نتيجة السياسة العشوائية الأمريكية هذه الأيّام، واتّخاذها قرارات خاطئة من منظور كثيرين شأن العقوبات الاقتصادية علــى بعض الدول، وكذلك فــرض الضرائب على الســلع التّجاريــة، وغير ذلك مــن التخبّط الواضح داخــل البيت الأبيض، والتباين في المواقف بين الرئيس ووزرائه.

بالإضافــة إلى الصــن العمــاق الاقتصادي الصاعــد، وروســيا الاتّحادية التــي ترغب في اســتعادة دورها الســابق بعــد تفــكّك الاتّحاد السوفييتي، في الوقت الذي تواجه فيه الإدارات المتتاليــ­ة فــي أمريكا تحدّيــات داخليــة كبرى، تتعلّق أساسا بمسألة الصحّة والضرائب وسقف الدّين التي حازت صراعــا كبيرا بين الجمهوريين والديمقراط­يــن. وتجد الولايات المتحدة نفســها أيضا أمام إرباك استراتيجي وهي مُلزمة بتحديث ترسانتها العســكرية، خاصّة مع التفوّق الروسي الواضــح فــي التكنولوجي­ا العســكرية الحديثة والمتطوّرة، الأمــر الذي يجعل العالــم من جديد أمام سباق تســلّح غير مسبوق. وفي سبيل إعادة سيطرتها على العالم اســتغلّت الولايات المتحدة بشكل تام أذرعها الاقتصادية المتنفّذة في الاقتصاد العالمــي، وأهمّهــا البنك الدولي وصنــدوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالميــة، مع محافظتها على الــدولار العملة العالميــة المتداولة حتى الآن في التعامــات الماليــة والتجاريــ­ة والاحتياط. وتحاول الولايــات المتحدة امتــاك القدرة على توظيــف التغيير، وإن لــم تكن هي مــن تتحكّم بتنظيــم «داعش» وغيره مــن جماعات الفوضى والتخريــب، فإنّهــا تُوظّف التغيّــرات الحاصلة بمــا يخدم مصالحهــا في المنطقة. ومــن الواضح أنّ إثارة النزاعــات الدينية والإثنيــة والمذهبية والطائفية والعشائرية، الأسلوب الأمثل للفوضى الخلاّقة، المنهــج الأمريكي الذي زعزع اســتقرار الدول العربية والاســامي­ة مــن حاصل المصالح الاقتصادية، وهــي كل ما يهم الولايــات المتحدة الأمريكية، وأغلب التحرّكات العسكرية تصبّ في خدمة المصلحة الاقتصاديـ­ـة الأمريكية وأيّ تغيير دولي تجده مدفوعا برغبة واشنطن في دعم قوّتها الاقتصاديـ­ـة، وضخّ دماء جديدة في مؤسّســاتها المالية والتجارية والصناعية.

وإن كانت الثورة التونسية عفوية في شرارتها الأولى ومســاراته­ا الأوّليــة، إلّا أنّ قوى الهيمنة وإدارة التغيير سرعان ما تدخّلت كالمعتاد لتوجيه السياســات وفق ما يتوافــق وتوجّهاتها ويخدم مصالحها الرأسمالية في المنطقة.

وموجة «التغيير» بشكل عام والمفاجئة للولايات المتحدة نفســها خاصّة في الحالة التونســية، قد ضُبط إيقاعها، وتلك مهمّة أمريكية حثيثة تُتدارك بســرعة، أمّا دعوتها إلى إقامة نظــام ديمقراطي في تونــس وحرصها على دعــم الديمقراطي­ة في هــذا البلد فلا يمكن أن يكــون خاليا من الالتباس البراغماتـ­ـي، فأيّ بلد يكون محــلّ تدخّل أمريكي لا يمكن أن تحصل فيــه ديمقراطية على الاطلاق، والأمثلــة على ذلــك كثيــرة في مختلــف بلدان العالم، خاصــة أنّ مصالح الولايــات المتحدة في شــمال إفريقيا بالتحديد تتصادم مع مصالح دول أوروبية على رأسها فرنسا الاستعماري­ة. وبدعوى حقــوق الطائفة والأقلية وحق قوميــة معيّنة في بناء دولتها يتمّ تقسيم العراق والسودان، ووفق منهج إثارة النعــرات القبلية تُفتّتُ ليبيا وتتحوّل إلى دولــة فاشــلة بجميع المقاييــس، والفوضى الخلاّقة ســائرة على باقي دول المنطقة من تونس إلــى مصر وســورية. وكأنّنا بمشــروع الشــرق الأوسط الجديد يحثّ خطاه نحو التجزئة وإعادة رســم الخرائط أو تعديل نســخة التقســيم التي أقامها «ســايكس بيكو.» وفــي المحصّلة النهائية يريدونها دولا «عميلة» أو «هزيلة» إمّا منقسمة أو مفكّكة أو ضائعــة أو متأرجحة أو مدمّرة وممزّقة، في حين تنعم اسرائيل بالتماسك وتحظى بالأمن.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom