Al-Quds Al-Arabi

في «الغفران» تبكي القدس فيصلها

- كاتب فلسطيني

للغفران في القــدس حضور مختلف. فــي تردّده لعنــة الترويــض وطعم من الإدمان البغيض؛ تصير فيه ابنة السماء أرملة يســكن في ديارهــا البكم ويتربّع فــي حرجها الخوف والــذلّ، وتغمر قناطر أحواشــها بحور مــن الالتباس. يقف أصحابهــا على أرض مــن زجاج أملس هــشّ ولا يجدون في فضائهــا، فوقهم، غير الغبار وغير وجوه تطلّ منه بقســمات غريبة ليست كقسمات الملائكة ولا العباد. تنتشر في أجوائها روائح البطش وأصوات العجز الخرساء.

أقف أمام نافذتي محاولا استكشــاف ملامح هــذا النهار. تحاول السماء استعادة زرقتها، ولكنّ بعض الغيوم البيضاء البعيــدة تمنعها من ذلك. أحدّق من غير هدف وأشــعر لوهلة بأنني في مــكان غريب. كانت البيوت قبالتــي مثل صناديق موصدة، بلا شــرفات ولا شــبابيك، ولون ســطوحها فاحم كرموش العتمة. شــوارع الحي بلا نبض، تمتد أمامي طويلة كلســان تنين خرافي. ســمعت من إحــدى الفضائيات مذيعا يصــرّح: «إنّ الأمين العــام لجامعة الــدول العربية يحذّر من انزلاق الأوضــاع في الأراضي الفلســطين­ية المحتلة إلى مزيد من التدهور خلال الفترة المقبلة». لم انتبه في ما إذا أوضحت الجامعة العربية ماذا ســتكون ردود فعلها المنتظرة إزاء هذا الانزلاق المتوقع، فلقد انشغلت برقصة غيمة شقية كان شكلها كحصان يقف على رجليه الخلفيتين.

حمّل بعدها المذيع نفســه «الولايات المتحدة المسؤولية عن خلق هذه الحالة مــن الغضب واليأس لدى الفلســطين­يين» بدأت أشــعر بالغضب والحزن؛ وحاولت التقاط صوت هدير محركات مراكب بعيدة فلم أسمع غير صفير الريح. انتقلت إلى شــرفتي الجنوبية. لم يخرج الراهب القبطي ليتفقد ساحته، كما كان يفعل كل صباح، ولم أســمع ضجيج طلاب المدرســة فبدت بناية الدير كأنها مهجورة. حاولت أن أشغل نفسي، كما يفعل أهل الضجر، بإحصاء ســرب الحمامات الذي يستوطن «ســطوح ضيعتنا العليانه» فلم أجد إلا واحدة فرّت كســهم مفزوع، عندما شعرَت بوجودي.

عدت إلى كنبتي، صديقتي، وقلت ربما ما زال النهار يافعًا، والمدينــة كما يبدو، لم تســتفق بعد من ليلهــا الطويل، الذي كان مثقلًا بتناهيد ســكانها اليهود وصلوات كهانها ورجائهم من ربهم أن يغفر كل ذنوب شــعبه المختار، مهما كبرت ومهما عظمت. مــا زالت أمامي صفحات من كتــاب يحكي عن تاريخ حياة صاحبي ، أمير القدس فيصل الحسيني، التي حاولت أن آنس ليلتي بعطرها، كعادتي في «مواسم القحط والغفران» .

لم أجد لنفسي في القدس مطرحًا بعد رحيل فارسها. كانت خيبتي موجعة ووقــع اليتم قاصمًا، فلم ألــق مثل ذكراه ظلًا واقيًا، ومثلها ملجأ يحميني كلما اشــتدّ الحصار وســدّ القمع جميع الطرقات والأماني.

مرّت ســاعتان شــعرت فيهما كأنني أقف علــى أرجوحة تنقلني بين قدسين وحلم. اســتذكرت سنين الحصاد والجني التي عشــت فيها قريبًا من قلبه ومــن عقله؛ غضبت ثم هدأت ثم حزنت ثم فرحت وابتســمت؛ تمامًا كمــا أوصانا الفيصل، وهو في زنزانته حين قال: «الأوضاع التي تحيط بي عابســة والجدران في هذه الزنزانة عابســة وأنــت عندما تقف أمام القضبــان تكون عابسًــا، حتى النافذة الوحيــدة في غرفتي يأتيني منها شــعاع الشمس عابسًــا، لا توجد أي ابتسامة إلا ابتسامتي؛ لذا فإنني لن أفقدها أبدًا». فهل ستكفي اليوم بسمة كي نبدد ظلام القدس؟

ســألت صاحبي إذا نجح في الوصول إلى القدس القديمة عســاني أنضمّ اليه في هــذا اليوم غير العــادي. في الأخبار اعلنــوا أن معظم الشــوارع مغلقة بحواجز أقامتها شــرطة الاحتــال لتمنع تحــرك المواطنين العرب في أرجــاء المدينة. يمكنك الوصــول إلى القدس عــن طريق شــعفاط، فمنطقة وادي الجوز فالبلدة القديمة، هكذا أفادني عبدالقادر؛ أي انك تستطيع التحرك اذا كنت تسكن في مناطق محيطة بهذا المسار فقــط. مع هذا فقد نصحنــي بألا أجّرب، لأنّ معظم الشــوارع مليئة بالجنود ورجال الشــرطة، والأســواق شبه خالية من الزائرين، والمســتوط­نون يمارسون تحدياتهم واستفزازات­هم ومحاولاتهـ­ـم للدخول إلــى باحات المســجد الاقصى . «يعني الأوضاع بتقهر وبتوجع القلب»، أوجز صديقي وصفه للوضع وأخبرني أنه في طريق عودته إليّ.

هل تعلم يا صديقي ما كان يقول معلمنا الكبير؟ سألته وكنا نســتعدّ لمغادرة البيت، فقرأت عليه ما جاء عن فيصل: «يمكن للقدس أن تكون إما شمس الشــرق الأوسط الدافئة أو ثقبها الأســود الذي يبتلع كل شــيء». نظرت إليه، وكان مطأطئاً، فرفع رأسه وقال: هذا الكلام صحيح لو بقي عاشقها يدافع عن حرمتها ويفتديها بروحه. تركنا البيت وقررنا التوجه إلى رام الله. ســرنا في شــوارع خالية إلا من الوهم والســراب؛ كانت المنطقة ككائن أصيــب بجلطة قاتلة. في بيوتها يصلّي الرجال ويتمنون انقضاء الشــقاء وتستمطر النســاء الغيم والقدر؛ في الجو هدوء ســاحر وفوقنا صارت الشــمس عالية وعلى يمينها خيال للقمر .»يا أخي معظــم الناس تصرفوا كما توقع حكام اسرائيل منهم»، بادرني أبو شادي، وأضاف بمسحة من حزن «تمامًا كما أملت عليهم غرائزهم التي دُجّنت خلال عقود من القمع والقهر والحصار». لم أجبه، فالشرق خبير بتدجين نموره في اليوم السادس.

يرتفــع على يميننا ســور الفصــل المســتفزّ. كان باطونه يصرخ، هكذا تخيّلنا، ويردد كلام فيصل يوم كان يواجه الأمة العربيــة ويقول لحكامها «نحن هنا نكافــح ونقاتل ونواجه. نســتطيع أن نعد الأمــة العربية والاســامي­ة بكفاح ونضال وصمود، سواء دعمونا أم لم يدعمونا، ولكن إن دعمونا فربما سنعدهم بنصر حقيقي».

كم كنا محظوظــن أننا عملنا مع فيصل؛ ولكم شــبعنا من عهركم أيها العرب. كم دشــمنا من وعودكم ومن شــعاراتكم الكاذبة، فتعالوا وانظروا كيف يســلبون من القدس، في يوم غفرانهم، سترها وكيف يعرّونها ليطأوا جدائلها ويدخلوا في عروقها. وتعالي يا أمةً «ضحكت من جهلها الأمم» وشــاهدي كيف تُذبح باســم الرب حوريتكم في هياكل الاستغفار وتُهتك جميلة الشرق وتُباح حســناء القصائد وتُسبى سيدة المهور والبخــور والدخان. «لقــد كان فيصل قائدًا جريئًا وإنســانًا مميزًا، تصــرف دائمًا بصرامة وبحكمــة، بعذوبة وبوضوح وبحنكة». فاجأني صديقي وأضاف: «لقد خشــوه الصهاينة وعرفوا أنه صادق وشجاع ووفي». وافقته وكنا على مشارف حاجز قلنديا عندما اســتذكرنا معا ما قالــه في لقاء عقده مع عشــرات القياديين الصهاينة الذين جاؤوا ليسمعوه: «نحن نناضل من أجل تحرير شــعبنا، وليس من أجل اســتعباد أي شعب آخر، نحن نناضل من أجل إقامة دولتنا وليس من أجل تدميــر دولة اخرى، نحن نكافح من أجل تأمين مســتقبل آمن لأجيالنــا القادمة وليس من أجل تهديد أمن أجيال أي شــعب آخر». تذكرنــا قائمة من غابوا بعده ومن صاروا «أســيادًا»، فشعرنا بغصة صعبة.

يوقفنا جندي على الحاجــز ويحاول أن يظهر رقة مبتذلة، فينظر إلينا ويحذّرنا، بصوت رشيق لا يشبه صوت الجنود، أننا سندخل إلى مناطق فلسطينية معادية، ولذلك سنتحمل، كمواطنين إسرائيليين، المسؤولية عن قرارنا.

فكرت لوهلة أن أسأله لماذا يفعل ذلك في هذا اليوم تحديدًا، أو أن أذكره بأهل القدس الذين تركناهم ســجناء في بيوتهم، وبالمســتو­طنين المعربدين في ســاحات البلدة القديمة وفي أزقتها، ولكنني التزمت الصمت ولذت بعروة بسمة الفيصل.

دخلنا رام الله المحتلة ومــن ورائنا كانت صرخات القدس تفضح عهر أربــاب هذا العصر وثغاءات جواريهم اللواتي من زبد ...

«يمكن للقدس أن تكون شمس الشرق الأوسط الدافئة أو ثقبها الأسود الذي يبتلع كل شيء»

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom