Al-Quds Al-Arabi

الدخول العربي إلى إفريقيا والخرائط المفقودة

- كاتب أردني

للقــارة الإفريقيــ­ة خصوصيتها، فهي تحمل وجهين، ليســا متناقضين، ولا يعبران عن ســوء نية أو رغبة في التضليل، فقط تحمل وجهاً أصيلاً يمثل الامتدادات البشرية للمجموعات القبلية، التي عاشــت قبل قدوم الاســتعما­ر، وقناع الدولــة التي أنتجهــا الاســتعما­ر لمصالحه، ولدى التعامل مــع إفريقيا يتوجــب تفهم هذه المســألة، إفريقيا الماضي وإفريقيا المستقبل.

كانــت إفريقيــا جنوب الصحــراء أرضــاً برية خصبة تســكنها القبائل التي تنتقل بديناميكية وحرية، وتتحدث بلغاتها الأصلية، وتتعايش ضمن منظومة خاصة بســام نســبي، مقارنة بما يجري في بقية العالم، فالأفارقة كانوا يخوضون معركتهم مــع الطبيعة الضاريــة، ومع حضور الاستعمار هبطت على الإفريقي المدينة ذات النمط المركزي والبيروقرا­طية والحدود، بطريقة أكثر انفصاماً عن الواقع مما حدث شــمال الصحراء في المنطقة العربية، ففي العالم العربي كانت توجد ســلطات متباينة، وقبــل الدخول في عصر الدولة الحديثــة، وهو الدخول المتأخــر على النمط الأوروبي، كانت المنطقة العربية تخضع إما لدويلات محلية تتواصل مع العالم بطريقتها الخاصــة، أو تعتبر جزءاً من الإمبراطور­يــة العثمانية، التي تعيــش نمطها الخاص في الحكم والإدارة.

لذلك فمن المستبعد أن أحداً يمكنه الزعم أنه يفهم الأفارقة بصورة حقيقية، الجميــع لديهم أفكار معينــة، يحاولون قــراءة إفريقيا، يتوصلــون لنتائجهم الخاصــة، ويبنون تصوراتهم وتجاربهم، ولكن يبقى ما في داخل الإفريقي وما بين الأفارقة أمراً مســتغلقاً على الفهم، ضمن عملية الثقافة السياسية السائدة في أي مكان آخر من العالم.

يدخل العــرب إفريقيا متأخرين عمليــاً، صحيح أن ثمة رصيد يمتلكونه مــن تواجد كان يمتد مع ســاطين عمان، ومن قبلهم أقيال اليمن في عصور سحيقة، ولكن من يمكنه أن يزعم أن العرب يمتلكــون الذاكرة التراكمية، التي يمكن أن تعيد إنتاج فهمهم الخاص لإفريقيا ومشكلاتها، فالدخول إلــى إفريقيا يجــري بعشــوائية، تدلل على عــدم القدرة على فهم الأرض التي تشــهد منذ عقديــن من الزمن صراعاً صامتاً بين القوى الطموحــة التي وجدت في إفريقيا فرصاً بعيدة عن نسخة مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق زبيغنيو بريجنسكي للصراع في أوراسيا.

عندما بدأت الصين حملتها الاســتثما­رية فــي إفريقيا، نبهت الهند إلى أنها تمتلك علاقات تاريخية ومعرفة أســبق بالمحيط الإفريقي من خلال التعبئة العســكرية البريطانية التــي كانت تقذف بالجنود الهنود من أجل الســيطرة على الأراضي الإفريقية، ومع الاستفاقة الهندية عادت دلهي إلى المشهد الإفريقي، وبدأت مجموعة من الدول الطموحة التي شــهدت التراجع المصري والعربي بشــكل عام في إفريقيا، تقفز جنوباً بكثير مــن الراحة، خاصة تركيــا وإيران، أما الوجود الإســرائي­لي النوعي ففي بعض المجالات المرتبطة بالتكنولوج­يا.

معظم الاســتثما­رات الأجنبيــة في إفريقيــا تدخل في البنية التحتية والقيمة المضافــة، التي ترتبط بالتعدين أو التصنيع، أما المصالح العربية فمرتبطة بالحركة التجارية، خاصة الموانــئ، وهو ما يبدو أنه رهان علــى قدر كبير من الخطورة والهشاشــة، وربما لا يســتحق أصــاً التنافس القائم، لأن الطــرق التجارية تعتبر لعبــة الدول العظمى، ترتبط بالتأمين والإمداد، وهو ما يصعب على دول الخليج العربــي أن توفره في المــدى الطويل، ومحاولــة توفيره ســتؤدي إلى دخولها في تحالفات عسكرية ستشكل تكلفة مضافة ستجعل خلاصة التواجد في إفريقيا أكثر تكلفة من عوائده.

يتصاعد موســم الدخول إلى إفريقيــا حالياً مع الرعاية الســعودية لاتفاقية الســام بــن الجارتــن اللدودتين، الدولة الواحدة ســابقاً، إرتيريا وإثيوبيا، وفي حالة تمكن الســعودية من التهدئة في اليمن، والتوصل إلى حلول مع إرتيريا، بالإضافة إلى علاقة دافئة مع مصر، فإن مشــروع البحر الأحمر سيكون جاهزاً، وســتبدأ استثمارات كبيرة فعلياً تحمل فرصها، ومشاكلها في المقابل، فالدول الإفريقية خاضت منعطفات المناورة السياســية طويلاً، فالحرب بين الصومال وإثيوبيا لمرحلة ما، كانــت نموذجاً غريباً لحرب داخل المعســكر الشــيوعي، ولا يمكن القول بأن الصومال كيان مســتقر في ظل الصراع القائم بــن القبائل، التي لم تجرب الدولة إلا ضمن قبضة ســياد بري الثقيلة، وإثيوبيا التي كانت قبل أشــهر على شفا صراعات عرقية ـ قبلية، بما يجعل الاستثمار في هذه المنطقة يتطلب قدرة على حمايته، أو حماية الأنظمة القائمة، وعملياً فالخيار العربي ينحصر في حماية الأنظمة القائمة، فهل تعتبر تجســيداً حقيقياً لما يمكن أن تطمح له إفريقيا مســتقبلاً في عالم مفتوح، وأمام ارتفــاع معدلات تحســن المعيشــة التي تنتعــش نوعاً ما بالأموال المتدفقة لإفريقيا.

يمثــل الرئيس الرواندي بــول كاغامه حالة تســتحق الدراســة على المســتوى الإفريقي، فهو يقــود اقتصادات إفريقيا بشــكل أســرع، ولكنه في المقابل، يتخــذ القرارات الجريئة التــي لا يمكن توقعهــا، فتحول بــاده من اللغة الفرنسية إلى الانكليزية أتى بأسلوب الصدمة، ما أدى إلى تعطيل المدارس لقرابة الســنة، وبالطبــع إحلال اللاجئين الروانديين الســابقين في أوغندا التــي تتحدث الإنكليزية مــكان البيروقراط­يــة التقليدية، وبالمناســ­بة كان كاغامه نفســه واحداً من اللاجئين هناك، كمــا كان كاغامه يمضي عكس التيار الســائد في التوجه نحو الصــن، ليقترف ما يشــبه عملية طرد للصينيــن من بلاده. نمــوذج كاغامه يتحول إلى أيقونة إفريقية، ومــن أكثر المتأثرين به على ما يبدو، وممن يتفهمــون لعبة الكاريزما وترويضها لمصلحته السياسية رئيس الوزراء الإثيوبي الحالي آبي أحمد علي، الذي يغري صعوده السريع خصومه بمحاولة استدراجه لمعركة كبيرة تقوم على أســس عرقية وجهوية في إثيوبيا، وهو الأمر الذي يجب أن يبقى في ذهن أي لاعب سياسي في منطقة القرن الإفريقي.

تقوم التخوفات أصلاً على ضعف الدبلوماسي­ة العربية في المناورة على مســتوى العلاقات البينية داخل الأســرة العربيــة، وضعف قدرتها على الاســتجاب­ة أمام التحديات المباشرة التي تتوالى من أنقرة واسطنبول، عدا عن الحيرة والتيه بين العواصم الاســتقطا­بية بين واشنطن وموسكو ولندن وباريس وبرلين، ومؤخراً بكين، وكل ذلك لا يشــجع بالتأكيد علــى الهجرة تجاه القرن الإفريقــي، أو ما وراءه من مناطق إفريقيــة واعدة، وعلى الرغم مــن أهمية ذلك، وضرورته، خاصة لدول عربية مركزية وتحديداً السعودية ومصــر، إلا أن العمل على المســتوى المرتفــع، وهو البنية الفوقية للحياة السياســية، لا يتأتى على أرضية الدخول إلى التأثير الاقتصادي من المستويات الإنتاجية التي يمكن أن تخلق القبول الاجتماعي الواسع.

تتأثــر بعض الدول الإفريقية بتجربــة القذافي وأمواله السهلة التي تدفقت للحكومات الإفريقية من أجل مشروعه الشــخصي، وهذه العقلية تحتاج إلى كثيــر من المراجعة والتغيير لتأســيس ما يمكن وصفه بالشــراكة الحقيقية، فالفرص الإفريقية كبيرة وبداخلها مخاطر جمة، ودراســة المخاطر السياســية والاقتصادي­ة قبل أي خطــوة، كما أن الصراع على افريقيا يحتاج زخماً وتنسيقاً لكي لا تتواصل عمليــة الاجتــرار الذاتي وتنتقــل من داخــل المنطقة إلى خارجها.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom