Al-Quds Al-Arabi

صرخة المجذوب هي القصيدة في ديوان «زيف الضحكة»

- كاتب مغربي

قد تكون أول مرة أركب فيها ســرج القراءة للزجال المغربي خالد الضاوي، وهذا لا يعني أني لم يسبق لي أن تأملت قصائده وهو يلقيها في مناســبات مختلفة.. وإنّ ما يأتي به هذا الالقاء المسرحي الماتع، الذي يتميز به المبدع الضاوي، استشــعرته وأنا أقــرأ له ديوانه «زيف الضحكة»، أي ما يعني أن القراءة عندي تحولت لفعل الإبصار والمشــاهد­ة، بناء على الصورة الذهنية المخزونة. ففي كل قصيدة أســتنطق حروفها يطل عليّ الضاوي بشَعره وشِــعره المرسلين، رافعا يمينه عاليا كصوته العالي على الدوام.. فأسمع صيحاته النابعة من عمق وجدانه كأن به جذبة صوفية.. هكذا وأنا أقرأ القصائد أتخيل أني أسمع العبارات بصوته، بحركاته، ولو أني أقرأها.

« زيف الضحكة» ابــداع زجلي يضم 19 قصيدة، أو لنقل صرخات، لكوني أتســاءل كيف يمكن أن نفصل بين القصيدة عند الضاوي والصرخة؟ فالقصيدة عند الضاوي، في نظري، هي صرخة، لأن صاحبها ينتفض ويستحيل شــعلة حارقة، لاســعة لمن يعتقد أنْ ليس للحروف وللكلمــات لســعات... إن صاحبها يمارس شــغبه متمردا على منطق الانبطاح والذل، لهذا يذكّر ويفكر ويربط الماضي بالحاضــر بخيط له صلة، كأن المضمرات تطفح بخطــاب الأحقية، يقول: «ياك ابّا لي بكوشت جير اتطلى ياك ابّا لي حرر الصحرى ياك بغيتوه يحدر راسو يعيش درويش كل حفرة تلوحو لحفرة وكل دبرة تزيدوا قهرة». ثم يقول: «عود ابّا ماشي عودكم

وخا جفل زتو لقدام دگيتونا بكدام تبوردتو بسلاح رآه سلاح بّا» إنه يمارس فعل إيجاد اللغة المناسبة – والمتناسبة - في منعرجات اللهجة المغربية، التي يعيد لها الزجل شــعلتها، لتغدو حية قابلة للصــدع بكلمات الحرية وقيم الحق، والانتصار للمســحوقي­ن، ممن دافعوا عن أوطانهم: «تعلى اصواتنا نطالبوا ب حقوقنا ... حنا أصحاب الحق». إن الشــاعر حين يطلق صيحاته، يصبح كالصوفي الذي لم يطق التجلّي، ولا غرابة، فالضاوي مجذوب حقيقي إذ يقول:

«ماشــي لخاطــري.. ماشي لخاطري مسكون گالو مهبــول.. گالو معقول

گالو حمــق.. گالو مجنــون )...( أنــا المجذوب بلا كذوب».

إن هــذا التعبيــر عــن الحــال باعثه الوعــي الشــعري الزجلي عنده، فهو إحســاس بحجــم مســؤولية القــول، ومســؤولية الصدح بالمختمِر من الحروف الحارقة، ليســت وسيطا للتملق والتزلف، ولا من طبيعتها التصنع، فلغة الضاوي من («قــاع الخابية» بالاصطلاح العامــي أي من العمق(،

معجم لغوي متداول، فهو لســان الأميّ والعالم، ومن بينهما في طبقات الشعب، لكن نفخة البعث سر لغته، وجوهر ســره. وهذا ما جعله يقول عن نفسه: « وأنا ضاوي شاعل من فم الحال انضم أقوال شاكي لحوال طارح السؤال حرفي رد ليه البال يمكن تفهمني يمكن محال». لعــل هــذه الإشــارة لإثارة الانتبــاه لزجل الضاوي، هو حــرص من الشــاعر على التــزام الفهم والحفر في العبــارة وســياقاته­ا قصــد تشــكيل المعنــى، وهــذه ضــرورة مهمــة فــي إشــراك المتلقــي في ما يجتاح وجدانــه، وما يؤرق وعيــه. لهذا ففي ســياق من التوهــج الوجدانــي لــدى الشــاعر، يفضي به الأمر إلى قلق الوجــود الــذي يعتصر الكينونــة، فتقفــز الرغبة نحو الســؤال قصــد معرفــة الذات ومســتلزما­ت تحققها، فأسّــس منطلقاتــه الوجوديــة على مبدأ الكوجيطو الديكارتي: « معرفتش منين نبداه/ بداني سولني وسولت من ثاني بالكي كل من له كياني

يقول أنا نفكر أنا موجود

ووجودي رباني». أرى أنــه منطق تفكيــري مهم عند الضــاوي، لأن انعدام التفكير في الواقع والناس وسياقات الحياة.. معادل لانعــدام الوجود، لهذا فهــو حريص على مبدأ الافْهام في خطابه الزحلي، فحينا يقول « يمكن تفهمو» وأخرى يقول: «وتفهموا وتزيد تفهموا سر كلام حرفي لي انتاحر وسط عتام ضلمت الدرويش.. ». أليســت هذه دعوة للتفكير حتــى يتحقق الوجود الإنساني الذي لا يحققه إلا قيم الحق، الكرامة، الحرية والعدالة؟

أزعم أنه رغم الشــعرية وصورها المتعددة في هذا الديــوان، فإن بنية الخطاب تســتند إلى رؤية واعية بضرورة التفكيــر، وربط متعلقــات الواقع الحاضر بــذات الإنســان/المقهور، الذي هو هنــا المركز وعليه مبتدأ القول ومنتهاه. ينطلــق الضاوي من ذاته نحو الآخر المســاوي له والمغاير فــي آن، موجها زجلياته بقول غير زائف يعري الواقع، ويفضح زيف الضحكة التي صارت رسما على الشفاه بلا معنى.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom