Al-Quds Al-Arabi

عائلة أبو داهوك... من أرض الدير إلى غرب الشارع حتى صفيح المجهول

- جدعون ليفي هآرتس 2020/7/10

■ هكذا يكنسون صرصوراً يستلقي على ظهره وهو يرفرف. أولاً، يلقونه فــي بيت الدرج، وبعد ذلك يضربونه بالمكنسة ويرمونه خارجاً.. بشكل عام، يرسلونه إلى موته. عند السماع عن التنكيل بعائلــة أبو داهوك، وهم رعــاة الأغنام البدو من أبنــاء قبيلة الجهالــن، لا يمكــن إلا التفكير بهذا التشــبيه لطرد صرصور. هكذا تتعامل الدولة مع الرعايــا الأكثر ضعفاً للاحتــال. رعاة أغنام بدو في هــذا الجزء من البلاد الذي تطمــع فيه الدولة لأخذه، وهو غور الأردن.

صــورة ذلك الصرصــور الذي ألقــي رافقتنا فــي اليوم الذي قضيناه هذا الأســبوع مع رئيس العائلــة، إبراهيم أبو داهوك، على أنقاض الخيمة الثانيــة التي طــردت منهــا عائلته في الأشــهر الأخيــرة. أبو داهوك قــال إنه لا يريــد مواصلة العيــش، حيث إن 30 شــخصاً من أبنــاء عائلته الموسعة ـ زوجتاه وأولاده التسعة وجميع أحفاده الصغار الذين لا يعرف عددهــم الدقيق، يجدون ملجأ في هذا الوقت من حرارة الصيف القائظة في خيمة لقبيلة بدوية أخرى. في الليل يعودون إلى المكان الذي طردوا منه والنوم تحت قبة الســماء مــع الأغنام، بدون مياه أو كهربــاء بالطبع. ليس لهم خيار آخر وليس لهم مكان يذهبون إليه.

طريق الوصــول إليهــم مرت بقريــة الخان الأحمر، ذلك التجمع الأكبر المشــهور لأبناء عائلة الجهالين، الذي يعيش ســكانه تحت رعب الهدم والطرد منذ ســنوات. العلم الإســرائي­لي الكبير الذي رُفع قبل ســنتين فوق قمة التلــة التي قبالة التجمع، يثير الخوف هنا. فــي الوقت الذي تهدد فيــه مســتوطنة «كفار أدوميــم» من قمــة التلة المجــاورة. وهــي المســتوطن­ة التي يخــرج منها المشــاغبو­ن ومن يخيفون رعاة الخــان الأحمر، يوماً يغرقون القريــة بمياه المجاري آخر يطلقون الــكلاب على الرعــاة، ويوماً يهاجمــون الأولاد الجيبات مسرعين ويدخلون القرية بشكل بربري لزرع الخوف.

من هذه المســتوطن­ة نفسها، ثمة شيء لا يمكن تصديقــه؛ فقد جــاءت المجموعة المدهشــة التي تثيــر التقدير وهــي «أصدقاء الجهالــن»، وهي

مجموعة نشطاء لحقوق الإنســان الإسرائيلي­ين الشــجعان. ويشــارك في هذه المجموعة عدد من سكان مستوطنة التنكيل، «كفار أدوميم» وسكان من مســتوطنات أخرى في الغور. روح المجموعة الحيــة هو البروفيســ­ور دان تيرنــر، وهو مدير معهد الجهاز الهضمي للأطفــال ونائب مدير عام مستشفى «شعاري تصيدق » في القدس. تيرنر هو أحد ســكان «كفار أدوميم»، وعندما يقوم جيرانه بمصادرة قطعان أغنــام الجهالين يهتم بإعادتها. وعندمــا يحتاج أحــد ما إلى العــاج يتجند بكل قوته. هذا هو المســتوطن الآخر. في هذا الأسبوع خاف تيرنر من أن لا نرتدي الكمامات عند زيارتنا لمجمع أبو داهوك، خوفاً علــى مصير نحو 3 آلاف شــخص، الذين هم أبناء قبيلــة الجهالين، الذين لم يصابوا حتــى الآن بكورونا. عندما طردوا أبو داهوك وهدموا خيامه، سارع تيرنر هو وعدد من أصدقــاء الجهالين للتظاهر في المــكان. وقد حمل لافتة كانت عليها صورة أبو إســماعيل من الخان الأحمر، وكتب عليها شــعار «تسوية أو ضم بدون قمع .»

تعيش 28 عائلة فــي قرية الخان الأحمر، التي تحولت مدرســتها المصنوعة من الطين والإطارات إلــى مركز الاهتمــام الدولــي والتضامن. تحول التهديد بهدمها وطرد ســكانها إلــى موضوع في الحملات الانتخابية الإســرائي­لية. عيد الجهالين، المتحدث المثير للانطباع فــي قرية الخان الأحمر، وياعل موآف، مرشــدة من القدس وناشــطة في «أصدقاء الجهالين »، رافقانا في الطريق شرقاً نحو الغــور، إلى منطقة دير حجلــة. عائلة أبو داهوك طــردت إلى هنا، علــى جانبي شــارع الغور، في المقطع الجنوبي الذي يســمى طريق غاندي، على اسم رحبعام زئيفي، وكأنهم يريدون الحفاظ على إرث الترانســف­ير خاصته. وبمجرد وصولنا إلى أبو داهوك، أرســل لنا البروفيسور تيرنر تذكيراً: «ارتدوا الكمامات». هذا الطبيب المدهش يقلق على جيرانه أبناء عائلة الجهالين.

الإخلاء

يجلس إبراهيم أبــو داهوك )53 ســنة( على بســاط قديم تحت ســقف ســاخن من الصفيح، ويتكــئ على عــدة ألــواح آيلة للســقوط بدون

جدران. يهب النســيم في كوخ الصفيح المفتوح، الذي أقامه بعد أن هدم بيته للمرة الثانية. هذا هو بيته الآن. والعلامات الوحيدة على وجود ســكن بشري هنا هي أسطوانة غاز ركنت إلى زاوية كوخ الصفيح، ومنقل فيه رماد وبقايا الســجاد مغبرة وممزقة على الأرض.

قطط صغيــرة حديثة الــولادة يظهــر عليها الجــوع وهي تركــض متعبة من شــدة الحرارة، وتحاول حتى لعق بقايــا القهوة في الفناجين من شدة العطش. سيارة إسعاف إســرائيلي­ة تطلق الصافرات وهي تســافر شــمالاً في طريق غاندي على بعد بضع مئات من الأمتار عن المكان الذي لجأ إليه أبو داهوك.

منذ العام 2003 ســكن أبو داهــوك مع عائلته خلــف ديــر غراســيموس المقــدس اليونانــي الأرثوذكسـ­ـي الذي يوجد شــرق طريق غاندي. اضطر إلى الانتقــال إلى هناك مــن منطقة النبي موسى بعد أن أعلنتها إســرائيل منطقة عسكرية مغلقة. دير غراســيموس المقدس شغل أبو داهوك في حراســة هذا الموقع، وفي المقابل سمح لها بأن يســكن في الأرض القفر الموجــودة خلف الدير، بعيــداً عن الشــارع الذي يؤدي إلــى الحدود مع الأردن. لــه 150 رأس غنــم، هــي مصــدر الرزق الوحيد لهم تقريباً، إلى جانب عمل الحراســة في الدير.

خلال 16 ســنة لــم يزعج أي أحــد العائلة في حياة رعيها الهادئة في الغور الصحراوي الصعب هذا، إلى أن جاء موظفو الإدارة المدنية إلى البيت النائي وتركــوا بطاقة، حســب ما يســميها أبو داهوك. البطاقة، حســب قولــه، باللغة العبرية، وهي اللغة التي لا يفهمهــا، وقد تجاهل وجودها. بعد بضعة أسابيع، عاد موظفو الإدارة المدنية مع بطاقة أخرى، هذه المرة قام بعرضها على محام في أريحا، فأجابه بــأن الأمر أصبح متأخراً جداً وأنه لا يوجد ما يمكن فعلــه، وأن عليه إخلاء الأرض. متى جاءت البطاقة الأولــى؟ لا ينجح أبو داهوك في التذكر. اتصل بزوجته يسألها. أي امرأة هذه؟ قال مبتســماً، الزوجة الجديدة يسرى، وهي التي تتذكــر.. في 30 تشــرين الأول. البطاقــة الثانية وصلت في كانون الثاني الماضي.

في نهاية شــباط، وصلت قــوات من الجيش وموظفي الإدارة المدنيــة وطرحوا احتمالين على

أبــو داهــوك: إما أن يخلــي عائلتــه وممتلكاته بنفسه من الأرض التي عاش فيها 17 سنة بموافقة أصحاب الجيــش، وإما أن يقوم الجيش بالإخلاء والهدم على حســابه الخاص. وقــد منحوه مدة أســبوع للإخلاء، لكن لم يكن لديــه مكان يذهب إليه. وحســب قولــه، اقترح عليه ســكان الدير البقــاء، لكنه خاف من الجيش فقرر إخلاء عائلته وممتلكاته.

وقال إن أحد موظفي الإدارة المدنية قال له بأن عليه الانتقال نحــو الغرب، إلى الطــرف الثاني للشــارع، وهذا ادعاء تنفيــه الإدارة المدنية. فهم لم يقترحوا عليه مكاناً للانتقــال إليه، بل أمروه بالإخلاء فقط.

في الأيام التي تلت ذلك، بــدأ أبو داهوك بنقل ممتلكاته من الطرف الشرقي للشارع إلى الطرف الغربي، إلــى الأرض المفتوحة التــي توجد قرب حقول النخيل في أريحــا. كان هذا بداية آذار وقد غرق الغــور بمياه الأمطار. نقل أبو داهوك الخيام والمباني التي يعيش فيها هو وعائلته وممتلكاته على ظهور الحمير وفي الشاحنات، وبدأ في بنائها من جديد في الطرف الغربي للشارع، المكان الذي نجلس فيه الآن.

سافرنا إلى الطرف الشرقي للشارع، إلى المكان الذي عاش فيه 17 سنة بدون إزعاج. قبب مذهبة تزين الدير، الذي عني بســاحاته وهو فارغ الآن فــي فترة كورونا. ســافرنا بطريــق ترابية نحو الشــرق، بيوت قرية الشــونة الأردنية تلوح في الأفق، وثمة بقالــة صغيرة منحوتة في الصخور.

وعلى الكثبان الرملية البيضــاء كان بيته. جهاز تلفزيون صغير وقديم محطم.

الهدم

في رمضان عاد موظفو الإدارة المدنية والجيش في وقت لم يكن فيه أبو داهوك في البيت. لم تفهم الزوجــة ما قالوا لهــا بالعبرية. وغــادروا مثلما جاءوا. بعد ثلاثة أســابيع، في الأيام الأخيرة من أيار أو ربما بداية حزيران، هو لا يتذكر بالضبط، جاءت قوات كبيرة مــن الجيش وموظفي الإدارة المدنيــة عنــد الثامنة صباحــاً، كان أبــو داهوك نائماً. أمر الجنــود الأولاد بإيقاظه، وعندها أمروا جميع أبناء العائلة، الشــيوخ والشباب والنساء والأولاد، بمغادرة الخيمــة والوقوف في الطريق الترابيــة المحيطة بحقل النخيل. بعــد ذلك بدأوا بهدم ومصادرة كل شيء.

أخذوا خزانات المياه وأجهزة التكييف الســتة ولوحات الكهرباء الخلوية والشوادر التي غطت أكواخ الصفيح. وأعملوا الجرافتهم على ما تبقي. تلك قصة تحكيها أنقاض الخراب. جدران الصفيح مع مواد عزل داخلها، دراجة هوائية لولد محطمة، صورة ممزقــة، أنابيب مثنية. كل ما تبقى. موظفو الإدارة المدنيــة قالوا له بأن يذهب إلى منطقة «أ». ولكنه الآن يســأل: أين ســأذهب؟ سأعيش على رؤوس الناس؟ ليس لي مكان أذهب إليه.

ورداً علــى ذلك، جاء من مكتب منســق أعمال الحكومة في المناطق على صحيفة «هآرتس»: «في 3 حزيران 2020 نفذت وحــدة الرقابة في الإدارة المدنية نشــاطات إنفاذ للقانون ضد منشآت غير ثابتة أقيمت بدون الأذونات والتراخيص المطلوبة في منطقــة دير حجلة الذي يقع فــي مناطق «ج» بأريحا. نؤكد أن تنفيذ القانون تم تطبيقه حسب الإجراءات ووفقاً للاعتبارات العملياتية».

أرســل أبو داهوك أبنــاء عائلتــه إلى تجمع مجاور على بعد مســافة ســاعة مشــياً من هنا. وحتى الأســبوع الماضــي كان يمكن الســفر إلى هناك بالســيارا­ت. ولكن الســلطة الفلســطين­ية وضعت ســوراً في المنطقة لمنع الخروج من أريحا بســبب إغلاق كورونــا. الآن هــو يعيش تحت سقف الصفيح الســاخن، وعائلته تنضم إليه مع القطيع كل ليلة بعد ساعة سفر مشياً على الأقدام. وكل بضعــة أيام يأتي الجيش إلــى هنا، وعندها يهرب الأولاد إلى حقول النخيل بذعر. والخميس الماضي، جاءوا هنا لتخويفهم.

ما الذي سيحدث؟ سئمت من العيش». «لا أريد سوى عيش مثل كل الناس. ليتني أستطيع العودة إلى الدير»، صرخ في الهواء. ابنه الأصغر هو ابن ســنتين ونصف. وحفيده الأصغر عمره شهران. والدته العجــوز تعيش معهم، وهــذا هو كوخها الصفيحي، وهنا كوخ صفيح للأولاد، وهناك كوخ صفيح لأبو داهوك وزوجتــه الثانية، وهذا كوخ صفيح لزوجته الأولــى. ثمانية مبان تم تدميرها، ولم يبق سوى السجاد الممزق الذي يغطيه الغبار.

 ??  ?? عناصر من جيش الاحتلال الإسرائيلي يجبرون أهالي قرية الخان الأحمر على ترك منازلهم
عناصر من جيش الاحتلال الإسرائيلي يجبرون أهالي قرية الخان الأحمر على ترك منازلهم
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom