Al-Quds Al-Arabi

صاحبة التعاسة وعمالة الأطفال

- *كاتب مصري

لي صديقٌ لعله الأشــد قرباً لي، ارتأى يوماً ما لســببٍ لم أعد أذكره تماماً أن يحيطني بطرفٍ من ســيرة جده لأمه العطرة، فأطلعني بصورةٍ سريعة على كونه، رحمه اللــه، كان متحدراً من أســرةٍ كبيرةٍ وثرية في محافظةٍ كبيرة من محافظات صعيد مصــر، وأنه كان نابغةً في الهندســة، حائــزاً درجة الدكتوراه مــا خوله أن يختتم حياته المهنية أســتاذاً لهــا في الجامعة على مــا أذكر، ولكل السالف أعلاه فقد كان يقطن في فيلا أنيقة في منطقةٍ جميلة في القاهرة، لم تكن تقدر عليها ســوى أسر الطبقة المتوسطة فما أعلى )على الأقل حينذاك( وبطبيعة الأمر فقد كان ميسور الحــال، وكان محترمــاً من قبــل المجتمع والجيــران، وكان مواظباً على فروض الله.

إلا أن المرحــوم كانــت له عادة أو ممارســة غريبة بعض الشــيء في نظر صديقــي ذاك، فقــد اعتاد أن يأتــي دائماً بصِبْيةٍ )وقلما صبايــا( ليعملوا خدماً لديه )وهي لمن لا يعلم عادةٌ شــائعة، حيث تجلب الأسر الموسرة أطفال تلك الفقيرة ليعملوا لديها(. وكان يحرص بالتزامٍ شــبه ديني أن يحلق للصبي منهم شــعره لدى مقدمه، ليتخلــص من القمل، ومن ثم يقوم بربطه وجلده بالســوط. الغرض المعلن من ذلك هو تأديبه، لا على جريرةٍ اقترفها فهذه لها حسابها الخاص، بل بصورةٍ اســتباقية «ليريه العين الحمــراء» أي ليريه عاقبة إثارة غضبــه، ليجعله يشــعر كيف يكون الألم، ليكســره

ويزرع فيــه الخوف من عصيــان الأوامــر، أو الخطأ، يدمغ الناموس والعرف في لحمه بذلك السوط. ومن ثم فإن لنا أن نفترض ونزعم، بأن تلك التجربة تصبح أحد، بل ربما الأهم في أســاس تكوين ذلك الطفل المفترض، ذلك الطفل بالاســم والسن فقط الذي يُمسخ ويشيخ قبل الأوان.

أنا أيضاً وكثيرون غيري من الخلفية الاجتماعية نفســها عرفنا الفتيــات الخادمات وكثيراتٌ مررن ببيوتنا، ويتفاوت نصيب كلٍ منهن في ما يلقين من عســفٍ، حســب طيبة قلب وكرم الأسر التي يوقعهن حظهن فيها، وليس هناك ما يمنع أن يكون ثمة تفاوض وهات وخذ على طريقة المعاملة بين أهلها/ بائعي عملها وطفولتها والأســرة/ مشــترية العمل وسارقة الطفولــة، وكل ذلــك يتم تحت مــرأى ومســمع )وموافقة( القانون والســلطة، فهي ممارسة عادية بكل ما تحتمله هذه الكلمة من اســتبطانٍ لكل الشــرور، من جرائــم اجتماعية وعنف تمثل حصيلة المقبول والمفيد للطبقات الحاكمة، مما تم تسييده على مجتمعٍ تشبع به.

حضرتني تلــك الذكريات والصور لــدى متابعتي لمعركةٍ على وســائل التواصــل الاجتماعي، أثارتها الممثلة إســعاد يونس بشيءٍ كتبته وتظارفت فيه، ربما متصورةً أنها خفيفة الظل، فسردت كيف أن عائلتها فوجئت بأحدٍ يدق الباب ذات يوم فإذا بشخصٍ من معارفهم يصطحب طفلةً للعمل لديهم، وإذ لــم يكونوا في حاجةٍ لواحدة لما كان لديهم ما يكفيهم من الخدم، فأخذ يلح معدداً محاسنها وبؤسها، وإذ يقبلون كرماً وضعفاً مــن قلوبهم الطيبة المرهفة، فمــا تلبث أن تثبت تلك الفتاة أنها لعينة، وعوضاً عن القيــام بالخدمة فإنها تصبح عبئاً ثقيــاً مدمراً ومكلفاً حتى ينتهوا بطردها؛ ســردٌ طويلٌ ممل لم تأل فيه جهداً فــي التفنن في وصف مدى قبح ودمامة وقــذارة تلك الفتاة التعســة، التي رزئوا بها حتى ليشــعر القارئ بالغثيان، لا من الفتاة ولكن من ذلك الكم من التعالي والاحتقار لمصير طفلةٍ لم تختر منه شــيئاً، ثم في النهاية لم يفت جدتنا إسعاد أن تسقط الفتاة على الإخوان المسلمين.

لحســن الحظ ثارت ثائرة الكثيرين علــى ذلك التصوير والوصف البشــع، إلا أنني على رفضي واستهجاني، لكل ما تشــكله تلك الحكاية المنفرة، فلا بد من الاعتراف بأن «ســت إســعاد» كانت بمبالغاتها الفجة أكثر اتساقاً مع نفسها ومع الطبقة التي تمثلها من كثيرين، وأنها بملامح تلك الأقصوصة البغيضــة، اختزلت موقفاً وتصــوراً طبقياً، يشــكل قاعدةً عامة تقوم عليها البورجوازي­ــة المصرية، الضعيفة تاريخياً والمأزومة بامتيــاز، التي تخفي بعنجهيتها هزيمتها الداخلية العميقة، ولعل أغلب من اعترضوا عليها لم يقدموا في حقيقة الأمــر إلا الوجه الآخر، الألمع بعض الشــيء والذين نصدره للخارج، إذ طفق الكثيرون يذكرون نماذج إيجابية ولحظاتٍ مومضــة عن تلــك العمة، وذلك الخــال اللذين شــبه تبنيا الخادمة فعلموها وزوجوها إلــخ، والحقيقة أن ذلك لا يعدو أمراً بســيطاً: هم لا يريدون أن يــروا، ناهيك من أن يعترفوا بقبــح الحقيقة، لا يريــدون أن يروا أن لديهم مشــكلة بهذا القبح، إن فتياتٍ من ســن أبنائهم تُســرق طفولتهن فتضيع بلا تعليمٍ ولا كرامة، يمســحن ويكنســن ويجلين الصحون، ولا يفوت الكثيرين أن يلفتوا الانتباه دفاعاً عن تلك الترتيبة الاجتماعية، بــأن أحداً لم يغصب الأهالــي على ذلك، وأنهم سيكونون أول الرافضين للقضاء على عمالة الأطفال تلك، لما تدره عليهم من دخلٍ هم أحوج ما يكونون إليه، وأن الأســر المحترمة «بنت الناس» كثيراً ما ســاعدت أولئك الفتيات على الزواج. لا أذكر كم مرة سمعت تلك الدفاعات والمبررات، وكما قلت فهي تنطق عن انحيازٍ اجتماعي واقتصادي، بما يواكبه من رؤى وأفــكارٍ أخلاقية )غيــر أخلاقية البتــة في حقيقة الأمــر( وهم يذكروننــي بحرية العامل في بيــع قدرته على العمل للرأسمالي، مقارنةً بالعبد؛ أجل الأهالي ليسوا عبيداً، ولكنهم لا يملكون ما يكفي، والغالبيــ­ة العظمى مجبرةٌ على بيع أطفالها بهذه الصورة، لتحقيق الكفاف وما الحالة الرثة التي وصفت الفتاة عليها إلا شاهدٌ على ذلك. هم ليسوا عبيداً ولكنهم ليســوا أحراراً تماماً، وقبل كل شــيء فأين المجتمع ممثلاً في التشــريعا­ت والدولة، الذي يحمي هؤلاء الأطفال، ويحفظ حقهم في الحياة الكريمة، بما تشــمله لزاماً من الأكل والكساء والسكن والرعاية الصحية وكرسي المدرسة ومكان للعب في متنزه؟

غيــر أن أهم ما لفت نظــري من التفنن فــي وصف القبح والقذارة، هو الغرض النفســي الذي يحققه ويلبيه: لا بد أن تنزع عنها أي إنسانية وأن تصورها مسخاً، لا بد أن تبدو تلك الفتاة البائســة وكأنها لا تنتمي إلى الفصيلة البشــرية، ولا تمت إلى الإنسان الصانع بصلة؛ لا بد من تنميط هذه الطبقة لتبدو مختلفةً تماماً عنا، وعن طبقتنا التي تشتري طفولتهم في سوق النخاســة المقننة المقنعة تلك، ولئن غابت الفوارق العنصرية الفجة عندنا بين بيضٍ زرق العيون وسودٍ افارقة، كما هي الحال في الغرب والولايات المتحدة مثلاً )مع ملاحظة تعالي العامة العنصــر وغير المبرر على افريقيا الســوداء، وما لاقاه السادات بســبب لونه وعقدته من ذلك على سبيل المثــال لا الحصــر(، فلا بد أن تحــل محلها فوارق جســدية أخرى، تحل محل العِرق، كالقذارة والهزال الناتج عن ســوء التغذية والبشرة الأدكن والشــعر الأجعد؛ أغلبنا يعرف أن أبناء الريف المصري كثيراً تتوفر فيهم الوســامة ربما بأكثر من المدينة، لكن وفقاً لتلك الرؤية الطبقية، التي تمثلها «ست إســعاد» وتغدقها علينا، فإن الخدم الأفقر لابــد أن يكونوا أقبح، ويفوت علــى ملاحظتها ونباهتهــا العلاقة بين الفقر والقــذارة والهزال! المهم أن هؤلاء الخدم لا يبدون كالبشــر، فالفقراء لا وجه لهم، مجرد كائنات، لا بل أشــياء، ما يذكرني أيضاً بالإسرائيل­يين، الذين لا يرون في الفلسطينيي­ن بشراً.

بالمناســب­ة الملحة، فإن الذين يســوقون المبــررات على عمالة الأطفال أنفســهم، المبررون لكل الشرور الاجتماعية، واستلاب الحقوق، هم هم أنفسهم الذين يروجون لنظريات الاقتصاد النيوكلاسـ­ـيكي والنيوليبر­الي، وتراهم وتسمعهم يتحدثون عــن أن الإصــاح لا الثورة هو الحــل، وأن ذلك الإصلاح المرجو يبدأ على مســتوى العائلــة، حيث لا بد أن يربي الأبــوان الأولاد جيداً، ومن ثــم ينصلح حال المجتمع، وأن النمو )لا التنمية( ســيرفع الجميع مــن الفقر عن طريق «تساقط ثمار النمو الاقتصادي» إلخ، لذا فليس من عجب أن تلك الطبقة والنظام آثرا التحالف مع اليمين الإسلامي، الذي لا يسائل أو يضرب ذلك الأســاس الاقتصادي- الاجتماعي لوجودهم مقارنةً باليسار بصفةٍ عامة.

على كلٍ، رب مقالةٍ رديئةٍ نافعة )وإن كان من قبيل التجاوز وصف ذلك الهراء الغــث بمقالة( فإن صاحبة التعاســة لم تســعدنا إلا بذلك الاختصار لمخايل الطبقــة التي تعبر عنها، والحقيقة أنها لا تُلام بقدر من يستكتبها ومن ينشر لها، ومن يعطيها مساحة إعلامية.

لــم تزل تلــك الطبقة تتخوف وتنشــر الهلع مــن «ثورة الجيــاع» وكأن الجياع هؤلاء مســوخ وكأن الجوع عيب أو جريمة. بالفعل هي جريمة يرتكبها نظام يســتغل ويســتلب ويقمع هــؤلاء الجياع. ألا فلتــأت هذه الثــورة لعلها تعدل الميزان، فتحرر الناس وترد عليهم حقوقهم وكرامتهم.

الغالبية العظمى مجبرةٌ على بيع أطفالها، لتحقيق الكفاف وفتياتٍ تُسرق طفولتهن فتضيع بلا تعليمٍ ولا كرامة

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom