Al-Quds Al-Arabi

ذاكرة تعاني النسيان

- * كاتب وأكاديمي جزائري

ذاكــرة الأمــة مثلهــا مثــل ذاكرة الإنســان، حتــى تنشــط وتعــاد لها الحيوية والقدرة على استعادة الماضي وتمثّله، تحتاج إلى العقل كآلة وأداة تدبير وتسيير وتَحَكم، فجميع القوى النفســية والروحية معلقــة بالعقل. والعقل بالنسبة للأمة هو الدولة، كما كان يَنْظُر الفيلسوف الألماني هيغل. فعندما راحت الســلطة القائمة اليــوم في الجزائر تعتمد أحداث مايو/أيار 1945، يوما للذاكرة الوطنية، تكون بذلك قد فوّتت فرصة تاريخيــة على الأمة، لكي تبعدها عن الذاكرة الجماعية وآلتها، إلى مناســبة من المناسبات التي تحتفل بها كل سنة، بعيدة كل البعد عن التاريخ وحيويته، لأن التاريخ يتفاعل مع الدولة كعقل للأمة وقوتها الفاعلة.

ولعلّ ما يعــدم حق الســلطة في عدم احتــكار صناعة الأحــداث التاريخية، واحتكارها هو هزيمتهــا النكراء في تأســيس الدولة ذات الشــخصية الاعتبارية، التي تكتفي بذاتها بعيــدة عن حكم العســكر، وقريبة جــدّا من إرادة الشعب. وعليه، فلا ذاكرة لأمة بلا دولة أو عقل.

الحقيقة، أن اعتماد أحداث 1945، كيوم للذاكرة الوطنية، فيه افتئات على الرأســمال الرمزي للأمة، واســتغلال غير مناسب لســلطة لم تتأســس كدولة، بمقوماتها وماهيتها وهويتها، بل قامت على الاســتغلا­ل والاحتكار والاستئثار بقيم ومبــادئ ومُثُــل تاريخ الحركــة الوطنيــة والثورة التحريريــ­ة، وليس أخيرا الحراك الجماهيــر­ي الرائع. إن عمليــة إدراج الأحداث والوقائع، في غيــاب دولة القانون والحــق، هو اســتنزاف وهــدر لإمكانــات تاريخية للأمة والمجتمع، لا يساعد إطلاقا في تمتين أواصر الوحدة الوطنية، بقدر ما يفَتِّتُها ويفككها. فقد تبين أن الرأســمال الرمزي، كما حدده المفكر الفرنســي بيير بورديو، إسْمَنت حقيقي لصهر الأمة مع تاريخها، ومن ثم مســاهمته القوية في دعم أركان المجتمــع وحياة الأمة، المادية والمعنوية، وأن أي اســتغلال لرموز الأمة بعيــدة عن روح الجماهيــر، ووعي المواطنين هو امتهان لذاكرتها وإضعاف لقوة حفظها. وللوقوف على مدى الدمار الــذي تعاني منه الذاكرة الجزائرية، بســبب احتكار الســلطة لوقائع تاريخ الحركــة الوطنية وثورتها، يجب التذكير، لمن يَتَذَكَّر أويَذَّكــر، أن اعتماد تاريخ أحداث مايو 1945، هو سياق لتمرير مسودة الدستور الحالي. فقد جرت العادة، خاصة عند هذا «السمسار القانوني» أن يمرر ويفــوّت ملفاته المريبة عبر ابتلاع، مــن دون هضم، الرموز الوطنية و»التَّكَلف» الفجّ باحترامها الكاذب. فقد جرى الأمر نفسه مع دستور بوتفليقة البائد، التنويه بالنشيد الوطني ومقاطعه الخَمْســة، ومسألة تبجيل العَلَم الوطني، لما تعلق الأمر بتمرير تعديل الدســتور، الذي يعفــي رئيس «دولة العصابة» من الالتزام بعهدتين فقط.

ولعلّ هذا الشــاهد يكفــي لوحده لإثبــات مدى تلاعب الســلطة برموز الأمة وتاريخهــا، وأن كل تصرفاتها تصب في نهايــة المطاف في ذاكــرة النســيان، لأن تاريخ ما بعد الاســتعما­ر كلّه، يأبى الدخول إلى مقــررات وبرامج وكتب مؤسســات التعليم الوطنــي. فلا يزال تاريخ الاســتعما­ر يغطي على «تاريخ» الاســتقلا­ل» ولا تزال «السلطة « تصنع «الأوهــام والأســاطي­ر» بعيدا عن عقل الأمــة، وتحاول أن تُرَسِّمّها عنوة على الشــعب، وتفرضها فرضا على تلافيف ذاكرة مجروحة، على رأي الفيلسوف الفرنسي بول ريكور. الواقــع، أن الجزائر تعاني من ذاكرة مجروحة، لأنها تخزن ما يأباه، ويرفضه التاريخ اللاحق على الاســتقلا­ل. وقائع هذا التاريخ، كما تغذيه الســلطة، كله يحيل على الكراهية والحقــد والضغينــة وعدم المصالحــة، ليــس لأن تاريخ الاستعمار يستأهل ذلك، بل هو تَصَرف يَقِي عناصر السلطة نفســها، مــن أي مزاحمة لها في اســتغلال منافــع ومزايا وخيرات فرنســا. فأصل خطاب الكراهيــة هو التلويح إلى غير مراده، ولفت نظر إلى غير مــا يجب أن ينظر إليه. فقد استثمرت الســلطة القائمة في المجال الفرنسي، واحتكرت حصاده، مســتخدمة خطاب الكراهية الــذي يصرف عنها من يزاحمها في ذلك. نعم هو الاســتغلا­ل على أعلى صعيد، تتواطأ فيه الأضداد: مســتعمر الأمس مع نظام ســلطوي اليــوم، ويبقي الباب مشــرعا على مطلب الاســتقلا­ل، كما يطالب به الحَرَاك.

الجزائر، وفــق التجربة المترســبة إلى اليوم، ســلطة تراثيــة patrimoini­ale، أي قائمة علــى احتكار تراث الأمــة وتاريخهــا كلّه، تعوّض بــه ما لا تســتطيع صنعه وإبداعه، فليــس للنظام القائم منذ الاســتقلا­ل ما يتباهى به ويفتخــر، لأن كل إنجازاته آلت إلى دمار وخراب، بل كل المدن ومؤسسات الدولة والمجتمع، صارت بلا هوية، مجرد بنايات عشــوائية تشــوه المنظر العام، وتكشف هشاشة البناء برمتــه. الســلطة التراثية القائمة فــي الجزائر، لا تستحي من أي شــيء حتى من أولئك الذين تعاديهم، فهي اليوم أقرب صديق ورفيق ومسعف لفرنسا، حتى إن أدعت خلاف ذلك، حتى لا يزاحمها الشعب الذي يريد أن يخرج من جحيم «الوطن» كما أن السلطة القائمة لا تستحي من تبني الحراك نفاقــا، حتى إن كان يعاديها علــى الخطوط كافة، ويطالب بســقوطها كأفضل طريق إلــى الخلاص والنجاة. اعتبار نظــام الحكم في الجزائر ســلطة تراثية، خاصة في وجهها الأخير، حيث طفا إلى الســطح بشــكل بارز: قيادة الأركان ضد نفســها، يكشــف من جملة ما يكشف أن خلفية الصــراع والخلاف القاتل بين القوى العســكرية، هو دائما حول تراث الأمة المادي منه واللامادي، خاصة منه الأرض، الموارد الطبيعيــة والريــع البترولي ومناجــم الصحراء ومعادنها، فضلا على احتكار سَــرْدية الثــورة التحريرية الكبرى دونمــا وجه حق. النظام القائــم على الاحتكار في مــا هو مادي وغير مــادي من تراث الأمة ليــس له ما يقدم بعد الإخفاق المرَوَّع في إرســاء معالم الدولة الحديثة، التي تفلت من احتكار الأشــخاص الطبيعية، ونحن لا نزايد في تقييم الوضــع في الجزائر على هذا النحو، لأننا وصلنا إلى مرحلة من المراحل، التي دخل النظام في صراع مع نفســه، وأن القضاء «كســلطة سياســية» يشــهد على المحاكمات التــي طالت كل القيادة العليا للجيش، على مرأى ومســمع من العالم كلّه والقصة ليســت إلا في مقدماتها الأولى. فقد وصلت الســلطة إلى درجة من الحكم، استنزفت فيه الموارد المادية عبــر الاحتكار الفاحش للعقار، والبناء العشــوائي للمدن والأرياف، كما اســتغلت معالم وأثــار ورموز تراث الأمة، ودخلت في صــراع داخلي، لا يمكن أن تنجو منه بعد التصفيــة الكاملة لمقدراتها التراثيــة، فقد كانت الجهة التي تستنزف خيرات البلد وإن بإشراك محتشم لبعض الرَّعية، وأنها هي التي تؤمن دورة الاحتكار والاســتغل­ال التجاري والاقتصــا­دي، بحيث يصب في نهايــة المطاف في الخارج، خاصة لدى محتل الأمس. اكتملــت الصورة على أن تاريخ الجزائر لما بعد الاســتقلا­ل هــو تاريخ لمرحلة الاســتعما­ر الجديد. فما زالت الذاكرة الجزائريــ­ة تحتفظ بآثار وبقايا الوجود الفرنسي في الجزائر وفي فرنسا، بينما لا يوجد في جعبة الذاكرة الجزائرية أي من بقايا صور الماضي ومعالمه، لما بعد الاستقلال: حالة من ذاكرة النسيان الجمعي.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom