Al-Quds Al-Arabi

الجزائر: رجال ملثمون يُمنع الحديث عنهم

- ٭ كاتب من الجزائر

■ الأنثروبول­وجيــا تجربة خطرة فــي الجزائر، لا تزال من تخصص مؤسسات رسمية، تطوق هذا العلم بقائمة طويلــة من الممنوعات، ولا يــزال الجزائريون يســتعيدون في مراجعهــم أعمــال أنثروبولوج­يين أجانــب، لأن نظراءهم المحليين مجبــرون، إما بقبول الممنوعات، أو أن دراســاتهم ســوف يسرح فيها مقص الرقابــة، كما حصل مع الباحثة مريم بوزيد ســبابو، التي بعدما قضت ثلاث عشــرة سنة في صحراء جانت )جنوب شــرق الجزائر(، وجدت نفســها غير مرغوب فيها، ومُنع كتابها ســنوات بوتفليقــة، ولم يرفع عنه المنع لحد الســاعة، لقد دونت دراســة ـ لعلها الأهم ـ عن منطقة محورية من الصحــراء، في كتــاب «نن كيل ســبيبة، في معنى شــعيرة عاشــوراء في واحة جانت»، كان بالإمكان أن تصيــر قاعدة تتفرع منها دراســات أنثروبولوج­يــة أخـــرى، لكــن بمجــرد صدور الكتاب، صدر الأمر بمنعه، بحجة أنه يُسيء لتلك المنطقة.

بعــد الاطلاع علــى الكتاب، لا يمكــن أن نعثر على أي شــيء يســيء إلى أهل تلك الواحة، وما يتبــادر إلى الأذهــان إنما هو منع سياســي، فقد جرت العــادة أن الجزائري يفضــل الحديث عن الآخرين لا عن نفسه، لا يرضى بالنظر إلى وجهه، ومــن يُغامر ببحــث علمي عن حيــاة واحدة من المناطق الجنوبية، اشــتهرت بطابعها السياحي وبموسيقاها، فهو يضع نفسه في حرج، ويتعرض كتابه للمنع، فواحة جانت تثابر في الحفاظ على صورة سطحية عن نفســها، ويضايقها أن تصير مادة بحثية.

من النادر أن نُصادف ترجمات لشــعر الطوارق إلى العربية، رغم كل هذه العقود التي مضت على استقلال البلد، لا تزال ثقافتهم مجهولــة عند بقية الجزائريين، عدا في شــقها الموســيقي، لكن مريم بوزيد ســبابو، حاولت ســد هذا الفــراغ وقدّمت فــي كتابها ترجمات لقصائد وأشعار، ومنحت القارئ فرصة في فهم أشمل لحياة «الرجــال الزرق أو الرجــال الملثمين»، تلك هي الصــورة التي التصقت بهم، لا يمكن أن نراهم ســوى ملثمين، وذلك اللثام ليس واحداً، بل هناك اختلافات، من حيث اللون أو الشــكل أو طريقة لبســه، فمنذ أن يبلغ الرجل في الصحراء ســن البلوغ يتلثم، ولا ينزع ذلك «القناع» أبداً. وســن البلوغ بين الطوارق يبدأ منذ قدرة الطفل على صيام رمضان. ويضاف إلى اللثام أن الطــوارق يحملون معهم في الغالب ســيفاً، وفي ذلك دلالة جنسية، بالبلوغ والخصوبة.

تنطلــق الباحثة في هذا الكتــاب، الذي مُنع بمجرد صدوره، من مقاربة أنثروبولوج­ية لشعيرة عاشوراء،

وما يُرافقها من عادات، قبل أن تلامس، شــيئاً فشيئاً، أجــزاء مهمة من الحيــاة الثقافيــة والاجتماعي­ة عند الطوارق، ذلك المجتمع الذي نسمع عنه أكثر مما نعرفه، والذي من كثرة انغلاقه على نفسه نبدو اليوم عاجزين عن فهم حياتــه، ولعل هناك رغبة في أن يحافظ رجال ذلك المجتمــع على «لغز» حياتهم، فمــا حصل مع مريم بوزيد ســبابو يعجل برقابة ذاتية في ذهن أي باحث آخر يفكر فــي التوغل في حياة الرجــال الملثمين. لماذا يُضايق ذلك المجتمع الصحــراوي أن يصير موضوعاً في كتــاب؟ ظاهرياً فإن احتفالات عاشــوراء تتوافق مع العاشر من الشهر الأول في التقويم الهجري، لكنها في مناطــق صحراوية، كما هو الحال عند الطوارق في جانت، تتصل أيضاً بمعتقدات قبل إســامية، بالتالي

لا يصح حصرها في التقــويم الهجري، بل إنها صارت «عــادة اجتماعية » ثابتة، أكثر من كونها مجرد احتفال ديني عابر.

كان فــي إمــكان الباحثة مــريم بوزيد ســبابو أن تقوم بدراســتها الأنثروبول­جية فــي منطقة أخرى من

مناطق عيش الطوارق، وتجنب نفســها المنع الذي تلا صدور الكتــاب، لكنها فضلت واحة جانت، لأســباب تشرحها: «ميزتها ليس لوجود البدو كأسياد في عالم الطوارق، لكن بوجود من يمكن تسميتهم بالمستقرين، أو الحضــر الذين يتخذون مــن الواحة فضــاءً آهلاً بثقافة مغايرة كطبيعة المســكن والنشاط الاقتصادي والعلاقة بالملكية العقارية، ومكانة النساء. ناهيك من المنظومة الموســيقي­ة التي تعلن عن هذا التباين في كل المناســبا­ت». يقيم الناس هناك في قصــور تاريخية، ومــن مصادر عيشــهم الأهــم: النخيــل. لا يمكن فهم خصوصيات ذلك المجتمع بــدون فهم علاقته بالنخلة، التي تســتخدم في أغــراض مختلفة : «مــن المأكل إلى الطقوس الجنائزية إلى اســتعماله­ا في صناعة أدوات الحياة اليوميــة وأدوات الموســيقى وغيرهــا، لأن أحسن الأدوات الموسيقية وأجملهــا صوتــاً تلــك المصنوعة من جذع النخيــل». وقد يهدى المولود هناك نخلة، فــي ذلك اعتقاد أن النخلة ســر الحياة و«من يمتلك نخلة لا يموت جوعاً«.

لــم يتخلص النــاس مــن معتقــدات متوارثة، يعيشــون على منوالها، مثلاً حين يولد طفل توضع عند رأسه سكين، كي لا يُســتبدل بصبي من الجان، أما تســميته فترتبط بمعتقد آخر، «يقوم رجل يمتلك معرفة دينيــة أو إمام بالاطلاع على الاســم المختار، ثم يتعرف الرجال أولاً على الاســم ثم تبلغ النســاء الحاضرات بذلك». ويفضل أن تكون أول امرأة تطلع على الاســم مســنة ذات حسب ونســب. عند بلوغ الفتاة، تقوم أول ما تقوم به بتغيير تسريحة شعرها وتزيينه، بينما يضع الفتى اللثام.

إن مجتمــع الطــوارق مجتمع تراتبــي وطريقة احتفاله بعاشوراء، التي تدوم أسبوعاً كاملاً تعتبر مفتاحاً في فهــم تنوعه وتناقضاته أيضــاً، فاللثام الذي يلجأ إليــه الرجال ـ على خلاف النســاء ـ له تفسيرات شــتى، منها من يرجعه إلى عوامل بيئية أو دينية، وهـــناك تفســــــي­رات غيبية، أنه يمنع دخول الجان. وترفــق المؤلفة كتابها بملحق مهم في ترجمــة مفـــردات وكلمات طوارقــية إلى العربية، وتخلص من خلال دراســتها لشــعيرة عاشــوراء عـــند الطــوارق في جانت.

إن هذا الإمعان في جانبها الاستعراضي، وإطالة مدة الاحتفاء بها إنما يعود الســبب فيه إلى الحقبة الكولونيال­ية، «إذ ســعت السلطة الاســتعما­رية، في ربوع الصحراء القاحلة لإجبار ســكان الواحة للقيام بعروض طلباً للترفيه خــارج مواقيتها، غير مكترثين بوظائفها التي تمليها»، واستمر هذا الخيار إلى يومنا، وعلى الرغم مما قامت به الباحثة في فضح الممارسات الاستعماري­ة التي حولت شــعيرة دينية إلى مناسبة إيكزوتيكية، فــإن القارئ للكتاب لا يجد علة في منعه، إلا إذا كان الجزائريــ­ون يخافون من الأنثروبول­وجيا، كما أســلفنا الذكــر ومــن أن يطلع «الآخــرون» على حقيقتهم.

 ??  ??
 ??  ?? مهرجان الطوارق
مهرجان الطوارق
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom