Al-Quds Al-Arabi

لبنان يدفع أثمان العزلة على وقع انهيار مالي ويُعاند الانفجار بمظاهر الجوع

- بيروت ـ «القدس العربي»: رلى موفّق

لبنان إلــى أيـــن؟ هـو الـسـؤال المفتوح على طيف السواد.

فـ»وطن الأرز» يكاد أن يتحوّل هشيماً، والبلاد التي لُقبت يوماً بـ«إهراءات روما» دهمها الجوع، ومدنها الـتـي صـــدّرت الإشـعـاع تغمرها العتمة، وشعبها الرائد في حب الحياة انطفأت أحلامه، وماضيها الذي كان باهراً يستحي من حاضرها، أما المستقبل فعلى كفّ المجهول.

الأرز الـــذي كــان شـامـخـاً في لبنان ينكس راياته. فهو لم يعد يشبه الوطن الــذي سكن طويلاً في الأغاني والقلوب. ولم يُسعفه التاريخ وذكْرِه 12 مرّة في ملحمة جلجامش أو 28 مــرّة في العهد الـقـديم، ولا التباهي بــأن اسمه ينحدر من بياض الثلج والبخور والطيب.

وربمـــا نعمة الجغرافيا التي صارت لعنة تُطارد هذا الـ«لبنان» المسترخي على حافة المتوسط بين الشمال الأوروبــي والجنوب العربي والشرق الآسيوي والغرب الأفـريـقـ­ي، فالموقع الــذي منحه فــرادة في الثقافة، جعله أيضاً وأيضاً قبلة الغزوات وساحة رحبة للأزمات. ويشدّه اليوم مشروعان متعاكسان، ويُقتاد مغلول اليدين إلى موت توقّعه ولم يُصدقه، هو الذي ظنَّ يوماً أنه «نجا بأعجوبة» من حَشْرِه في نادي الـدول التي اختيرت ممراً لـ«الفِيَلَة» في المنطقة الأكثر اشتعالاً على الكوكب بعدما تحوَّل ربيعها خريفًا.

لم يُدرك لبنان أن الـزلازل التي تضرب المنطقة بدأت منه وها هي عــادت إليه. لم يكن شطب رفيق الحــريــر­ي بطنٍ ونصف طـن من المتفجرات في 14 شباط/فبراير 2005 مجرّد جريمة اغتيال، بل شـكّـلـت الـرصـاصـة الأولــــى في المــشــرو­ع الإيـــران­ـــي لاستباحة المنطقة واسترهان دولها والتحكم بمصائر شعوبها.

ورغـــم أن سـوريـا دخـلـت إلى لبنان على دمّ الزعيم الدرزي كمال جنبلاط، وخرجت على دم رفيق الحريري، فإن إيران وعبر ذراعها الأقـــوى، أي حــزب الـلـه، نجحت في كسر شوكة تحالف «14 آذار» السيادي عبر ثورة مضادة تمكنت عبرها أخيراً من الإطباق على القرار اللبناني ومؤسساته.

ولكن غالباً ما تعاطى المجتمعان العربي والدولي بدراية مع لبنان الذي اعتُبر لأعوام طويلة مخطوفاً و«لا حول ولا قوّة له»، وأن الأهم هو الحــدّ من وهـج سـاح «حزب الله» على الدولة، وحماية السلم الأهلي، وضخ مقويات لاقتصاده لعل في الإمكان تحصينه في وجه التمدّد الإيراني.

وغــالــبـ­ـاً مـــا راهـــنـــ­ت الــقــوى المناهضة لإيــران على محاولات «لبننة» الحزب وخياراته، غير أن هــذا الـرهـان-الـوهـم سقط حين كرّس هويته كجيش عابر للحدود مداه مقتضيات المشروع الإيراني الـذي حمله إلى سوريا والعراق واليمن في حرب علنية ومفتوحة تباهت طهران بأنها تمكنت معها من إخضاع أربع عواصم عربية، بينها بيروت التي أدارت ظهرها للشرعيتين العربية والدولية.

لم تعد بيروت مساحة اختبار لـلـمـسـاك­ـنـة الاضـــطــ­ـراريـــة بين المشروعين اللذين يتطاحنان في المنطقة بعدما اختلت التوازنات اللبنانية مــع أفـــول التحالف المــنــاه­ــض لإيـــــرا­ن، بــذريــعـ­ـة أن «حــزب الـلـه» مشكلة إقليمية لا يقوى الداخل على التصدي لها، وأن حلها يكون في إيــران لا في الضاحية الجنوبية لبيروت. ولا يزال في الأذهان مشهد التنافس بين زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري ورئيس حزب «القوات اللبنانية» على تثبيت «الفضل لمن» فـي إيـصـال حليف «حــزب الله» المسيحي الجنرال ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، وتساهلهما في إمرار قانون انتخابات برلمانية احتفل يومها قائد «لواء القدس» قاسم سليمان بنتائجه.

فسقوط الهوامش بين «حزب الله» والدولة اللبنانية كمؤسسات، وإفراط الحلفاء المفترضين للعرب والغرب بـ«واقعيتهم السياسية» دفع المنظومة العربية، ولا سيما دول الخليج إلــى إدارة ظهرها للبنان وإلى إطلاق الولايات المتحدة الموجات المتتالية والصارمة من العقوبات على «ذراع إيران» الذي جعل من لبنان متراسه لمشروعه الإقليمي.

«الوطن الهش» الذي تحمّل وزر استرهانه مـن إيـــران فـي صـراع

لاهـب مع العرب والـغـرب، يدفع أثمان عزلة قاتلة لم يشهد مثيلاً لها، منذ خـروجـه إلــى الخارطة ككيان قبل مئة عــام، على وقع انهيار مالي لا سابق له ومـأزق سياسي يُعاند الانفجار بمظاهر جوع وبطالة وما هو أدهى.

والأكـــثـ­ــر إثــــارة فــي الــصــراع الإيراني-الأمريكي الكبير الذي صـــار لــبــنــا­ن إحــــدى سـاحـاتـه الصاخبة أن لا عـــودة عنه إلى الــوراء، وتالياً فإن الأنظار تتّجه إلى «مَن يصرخ أولاً» في الحرب الناعمة التي تشنها واشنطن عن بُعد، وفي المواجهة بـ«الآخرين» التي تخوضها طهران وباللحم الحيّ حتى إشعار آخر.

وإذا كانت الصولات والجولات على طريقة الكرّ والفرّ في العراق جعلت واشنطن تربح من دون أن تخسر طهران مع مجيء مصطفى الكاظمي رئيساً لــلــوزرا­ء، فإنه في لبنان ما زال التعادل السلبي يحكم عضّ الأصابع وسط صراخ لبناني لا تكترث به طهران وتريده واشـنـطـن «وجـــع سـاعـة ولا كل ساعة».

لـــم يــخــرج لــبــنــا­ن الـرسـمـي )الرئاسة والحكومة والبرلمان( عــن الـنـص الـــذي رســم خطوطه «حزب الله» وترك البلاد تنزلق إلى الإفـاس المالي حين قرر الامتناع عن دفع ديونه للخارج والداخل على حـد ســـواء قبل أن يلتحق

متأخراً بمفاوضات مع صندوق النقد، سمح بها «الحـــزب» بعد ممانعة، لكنها مفاوضات متعرجة ويصعب التعويل عليها.

وبـــدا الحـكـم وحكومته على انصياع لخيارات «الحزب» بعدما أدار «الأذن الطرشاء» للنصائح الدولية وانخرط في لعبة تصفية حسابات داخلية مـع الخصوم غير آبه بالضرورة والحاجة إلى الاستجابة لمتطلبات الخـروج من الحـفـرة العميقة، عبر الـشـروع الفعلي والعملي في الإصلاحات والـعـمـل عـلـى اعـتـمـاد سياسة النأي بلبنان عن صراعات المنطقة ومحاورها. لا بل استمر السلوك «الانتحاري»، وتعاظمت مظاهر الأزمـة «الوجودية» التي تُعانيها البلاد مع التهاوي الدراماتيك­ي والــهــائ­ــل لـلـيـرة أمـــام الــــدولا­ر، والارتــفـ­ـاع الجنوني فـي أسعار السلع الاستهلاكي­ة وشحّ العملة الخـــضـــ­راء والــعــجـ­ـز عــن تأمين الفيول وتعميم العتمة وطغيان شبح الجوع والفقر والهجرة وقفل المؤسسات.

هـــذا الانـــــز­لاق الــســريـ­ـع إلـى واقع كارثي-جحيمي دفع الأمم المتحدة أخـيـراً إلـى التحذير من خــطــره، فــي الــوقــت الـــذي تلهو السلطة الحاكمة بتعزيز نفوذ أطرافها داخل مؤسسات الدولة عبر تعيينات على شكل صفقات يُــــراد مـنـهـا تـكـريـس الاخــتــا­ل

 ??  ?? لبنانيون يحتجون على الأوضاع الاقتصادية
لبنانيون يحتجون على الأوضاع الاقتصادية

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom