Al-Quds Al-Arabi

زمن كابوسيّ لا حاضر له ولا مخرج منه إلا بالخيال

- وسام سعادة

يواجه لبنان، في مئوية انشائه كبلد، وضعاً كابوسياً لا يظهر له من مخرج.

الكابوس هو ما تشعر غداته أنه بمقدورك الاستفاقة منه بعد أن يكون ضيّق عليك، في المنام، كلّ مخرج. أما الكابوس الذي ينزل في لبنان حالياً فعلاوة على اقفاله كل المخارج، استطاع أن يجنّد شعور الاستفاقة منه لحسابه تماماً. كابوس متتالي، رزمة كوابيس.

والـعـرب سمّت الكابوس «رابــوصــاً» و«جــاثــومـ­ـاً». وبمــا أن الجــاثــو­م ارتبط بعفريت يحمل هذا الاسم أكثر، جاز وصف الحال بأنها اطباق الجاثوم على صدر البلد أكثر فأكثر. حتى يبدو الأمر وكأننا ننام ونصحو، مع صعلوك شعراء الجاهلية المــعــرو­ف بـــ«تــأبّــط شــــرّاً» وهــو يصف «مرقبته».

والمرقبة مكان مرتفع في الجبل يحوزه طالبه مــاذاً وملجأ، أو نقطة استطلاع للعابرين، أو لنصب مكمن لهم، مكان يلازمه الصعلوك أياماً وليالي. فتتحرك به الوساوس، أو يروّضها وهو في صحبة الجن والعفاريت. وهذه حال الشاعر تأبّط شرّا في بيته الغرائبي: «نهضتُ إليها من جثوم كأنّها عجوزٌ عليها هِدْملٌ ذاتُ خيعلِ». استفاق تأبّط شـرّاً من الجاثوم ليجد قد سحر المشهد أمامه في المرقبة، فظهرت له تعرّجات الصخر مثل عجوز شمطاء بثياب بالية. في هذا العام اليوبيلي بامتياز، عام مئوية لبنان الكبير، من لنا، غير الشاعر الجاهلي الصعلوك تأبّط شــرّاً، ليصف حاله، وحالنا، من» مرقبته» الغابرة؟

من وجوه الجاثوم الجاثم على صدرنا كلبنانيين أنّ الأمـــور تنهار وتثبت في ذات الوقت. انهيار في شـروط وظروف العيش غير مسبوق، ولا يبدو أن هناك من يستطيع الزامه بعتبة معينة لا يتجاوزها، هذا في مقابل أشكال متعددة من الجمود: جمود قديم العهد يجد رمزيته في تأبيد نبيه بري رئيسا على برلمان منذ 1992 إلى اليوم بلا انقطاع، وجمود حديث العهد يختصره «التكنوقراط­ي الأول»، رئيس الحكومة، الــذي لـم يـتـردّد فـي كـل هذه المعمعة، من التغني بأن حكومته أنجزت معظم برنامجها في وقت قياسي، وبين هذا وذاك، الجمود الذي بات صنواً لـ«العهد» الـرئـاسـي العوني نفسه. جمود أيضاً للناس في منازلهم، وجمود للناشطين في الطرقات حين يتكرر بهم المشهد. جمود في الانتفاضة، سابق على الجمود الذي تسببت به جائحة الكورونا والتعبئة العامة ضدها. انهيار على جمود، وجمود يحدث الكثير من الصخب من دون ان يخدش هذا الصخب طبقة الجمود الكثيفة. وإذا رجعنا لخلفية المشهد العام قليلا، نجد جمودين بنيويين، أحدهما متعلق بسلاح «حزب الله» واستعصائه على كل مبحث، في الداخل أو في الخــارج، وثـان متعلق بجبهة المصارف. فهذه المصارفة منهارة وجامدة في نفس الوقت. مفلسة ومقتدرة معاً. تبرئ ذمتها المعنوية تجاه مودعيها المحتبسة أموالهم، بالتهديف على سوء السياسات العامة تارة، وعلى المشكلات المرتبطة بحزب الله والانقسام حوله تارة، لكنها في نفس الوقت ثابتة في مكانها، مهيمنة، بمعية اتحــادهــ­ا العضوي مع المصرف المركزي، على السوق، لا تكسر لها كلمة. مصارف يصعب التخيل ان لها مستقبل في السنوات المقبلة، لكنها الآن تمسك بنصف الحاضر، ويمسك بالنصف الآخــر «جـمـود» الانقسام الصاخب بين «حزب أمريكا» و«حزب ايران» في البلد.

فالبلد بعد أشهر قليلة على انطفاء انتفاضة التشرينين والكانونين، المتجددة بعد ذلـك في وثبات متقطعة كانت أهم محطاتها احتجاجات طرابلس، هو بلد منقسم إلى ثلاثة أحـزاب «فعلية». حزب إيـران، القائل بالتوجه شرقاً، وبالتوجه زرعــاً، وحـزب أمريكا القائل بلجم حزب إيران، وبينهما حزب المصارف، أقرب إلى حـزب أمريكا من حـزب إيــران لكنه أكثر مراوغة وصبراً. وحزب المصارف هذا لا يقتصر على أرباب المصارف وكبراء مدرائها ومستشاريها وساستها ومحامييها وصحافييها، بل يشمل نسبة معتبرة من الـرأي العام، محمولة على الاقتناع بأنه اعطي خبزك للخباز المصرفي ولـو أكل نصفه، أو معظمه. هناك إذا حزب شعبي للمصارف، حتى، بل أساسا، في معشر المودعين العاديين. لئن كان احياء «لبنان المصرفي» أقـرب إلى الوهم، فإن الحزب الشعبي للمصارف ليس وهـمـاً. انكار وجــوده، واختزال المسألة في المناقضة بين مصالح الواحد في المئة الأكثر اكتنازا للثروات وبين مصالح الأكثرية الساحقة مــن الــنــاس، انــكــار واخــتــزا­ل لــم يسفر عنهما إلا تراجع الحركية الشعبية الضد للمصارف، والمستقلة بنفسها في نفس الوقت عن القسمة بين حزب أمريكا وبين حزب إيران. الحزب الرابع في لبنان اليوم، غير حـزب أمريكا وحــزب إيــران وحزب المصارف، أشبه بمقام للغياب. تحقيق هذا الحزب الرابع في عالم الوجود مشروط

بالقدرة على إدراك وحــدة الوقائع في اختلافاتها. في الخريف الماضي، وبسبب من الفصل بين وقائع الانهيار وبين وقائع الخروج الشعبي، كما لو كانت هذه في عالم موازي لتلك، لم يتأمن تحقق هذا الحزب لا في الأذهــان ولا في الأعـيـان. واليوم، القدرة على فهم الانهيار والجمود كمعطى متشابك هو الممر الالزامي لشق السبيل إلى هذا التحقق. من دون هذا الحزب، المتفلت من ثلاثية حزبي أمريكا وإيــران وحزب المصارف بالمعنى الأوســع، من دون هذا «الحزب - المرقبة»، إذا ما استعدنا حالة الشاعر الجاهلي تأبط شرّاً، فان الكوابيس المتلاطمة ماضية في التناسل من بعضها البعض. حزب من موقع الصعاليك، من موقع الطبقات الشعبية، حزب متأبط شرّاً في وجـه الآمــال الزائفة، وحــزب معني بالدفاع عن فكرة عن لبنان، فكرة بتاريخ اجتماعي بديل عن لبنان اللا اجتماعي، الاوليغارش­ي والممليش: هذا وحده الحلم الذي يمكنه ان يقينا من الكابوس قليلاً. حزب، بمعنى آخر، لإعادة تأسيس لبنان، كوطن للطبقات الشعبية أولا، وكوطن لا يخاف من الاختلافات فيه ومن اختلافه ولا يغالي أيضا في تقدير اختلافيته، هل هذا محال؟ محاله الحالي هو شكل ظهوره كضرورة. ذلك ان محاله وجه من أوجه استشراء الكابوس.

مقولات 99 في المئة ضد 1 في المئة لا يمكنها ان تساعد على تحقق هذا الحزب الرابع في الوجود. فأحزاب أمريكا وإيران والمصارف، هي، كلها، أحزاب جماهيرية، والبشر كثيرا ما يحدث لهم السعي من أجل عبوديتهم كما لو كانت هي حريتهم، على ما أقلق سبينوزا، وشكل مدخلا لفلسفته السياسية. نحن حيال ثلاثة أحــزاب، لأمريكا وإيـــران والمــصــا­رف، في لبنان، تسعى جميعها من أجل العبودية كما لو كانت هذه العبودية حريتها. انى للحزب الرابع، المعدوم واقعا، ان يفلت من هذا؟ بتقديم نظرة غير اختزالية عن سؤال الثروة في لبنان. هذا أولا.

فما هو مصدر ثــروات الأوليغارش­ية اللبنانية؟ عمل اللبنانيين؟ الأرض اللبنانية ومـــا عليها؟ مــصــادرة أمـــاك وأمـــوال الـدولـة؟ الاستثمار في البنية التحتية؟ إنتاج العمارات؟ الريوع؟ عائدات السوق الــعــقــ­اريــة؟ عـمـل الـعـمـال مــن مختلف الجنسيات في لبنان؟ تبيض أموال يرتبط بدورة المشرق العربي ككل في عالم تجارة الـسـاح والمخــــد­رات ورعــايــة الإرهـــاب؟ استثمار غير اللبنانيين خـارج الأراضـي اللبنانية أيضا؟ التمويل السياسي للانظمة المتدخلة والمستثمرة في أحوال البلد ضد بعضها البعض كانظمة؟

بـالمـطـلـ­ق: كـــل هــــذا، شـــيء مـــن هـذا وذاك وهــذا. ولأجــل ذلـك مصدر ثـروات الأوليغارش­يين لا يمكن ان يختزل لا في انــه «الـفـسـاد» ولا فـي انــه فائض قيمة العمل، وموقع فائض قيمة العمل ينال نسبة أوسع إذا ما شملنا فائض قيمة عمل اللبنانيين وغير اللبنانيين ومن هم خارج لبنان، وأيضا فائض قيمة عمل السوريين في سوريا نفسها، وليس فقط في لبنان وحده )ليس هناك سوق لبنانية منفصلة عن السوق السورية إلا جزئيا(.

ومــع كـل هــذا، فائض قيمة العمل لا يغطي كل مصدر ثـروات الاوليغارش­يين. المصادر الأخــرى التي نخلطها كلها في مسمى «الفساد»، وبالصدارة منها التربح بمــصــادر­ة الــعــام، والمــشــا­ع، ومـصـادرة الخاص الأضعف أيضا.

وهنا أيضا، فائض قوة العمل زائد الربح بالمصادرة على الدولة وملكيتها العامة

وعلى الملكيات الخـاصـة للناس وعلى المشاع، ليس يكفي.

جزء أساسي ونوعي من مصدر ثروة الاوليغارش­يين هو بيع مستقبلنا سلفا، مستقبل قدرة هذا المجتمع وهذا الكيان على الاستمرار، بيعه سلفا و«مشاركة» الناس في أربــاح هـذا البيع على امتداد العقود الثلاثة المنصرمة. ما الذي فعلته سياسات الاستدانة، ماذا فعله المصارف، ماذا فعله الاستثمار في نزاعات المنطقة أو استثمار نزاعات المنطقة فينا؟ ربع قرن وأزيـد من العيش على حساب المستقبل.

المدخل الذهبي للاقتصاد السياسي للنكبة اللبنانية الحالية انـنـا فـي بلد تربحت فيه الاوليغارش­ية ببيع مستقبله سلفا لسنوات وتقاسمت جـزءا من هذا مع الناس، بالتفاوت بينهم بحسب درجة قربهم أو بعدهم منها.

وقد وصلنا إلى المستقبل. نحن في زمن لا حاضر له. نحن في المستقبل. المستقبل المباع سلفا إلـى درجــة ما عـاد فيها هذا المستقبل حين ندخله قابلا للتحول إلى حاضر يدفعه إلى الماضي مستقبل جديد. البيع المديد لمستقبلنا أدخلنا في لحظة المستقبل المعلق، لبلد لم يعد له مستقبل. انما هو بلد تحيينا فيه أرواح الماضي، أرواح العاميات الشعبية المنتفضة التي تحل بك وأنت تمرّ على مقربة من قراه. وما قيمة هذه الآن؟ سؤال بديهي. لكن الجواب ليس على هذه الدرجة من البداهة. فغير أرواح الماضي الكفاحي الشعبي، بكل التمازج بين الحقيقة وبين الاسطورة في ذاكرته، غير أرواح هذا الماضي «لن يبقى حجر على حجر». المهمة الأولى الآن، إذا: استعادة نقطة، في كل هذا الكابوس، لاستئناف الخيال. قبل تحرير الواقع من كابوسه، الأولى تحرير الخيال من كابوس الخيال.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom