Al-Quds Al-Arabi

مفاوضات لبنان وصندوق النقد: «صفر مكعب» أرقاماً وإصلاحاً وكسر المأزق سياسي

- بيروت ـ «القدس العربي»:

17 جـولـة مــن المــفــاو­ضــات مع صـنـدوق النقد الـدولـي والنتيجة صفر مكعب. يريد الصندوق دليلاً حسيّاً ولو صغيراً على جدية لبنان الدولة برؤوسه المتعددة وأمراضه السياسية، فلا يجد. يجلس قُبالته وفـد على شاكلة طبقته الحاكمة، مُجسداً معالم تشزدمها وتناقضها وتناكفها وتخبطها وتصادمها وتحاصصها، وعاكساً لاختلافات فــي الـــرؤى حــول خطة الحكومة الاقـتـصـا­ديـة - المالية وخـافـات حول الأرقـام فيها، كان يُفترض أن تكون موحدة ومتطابقة. يحصل كل ذلك في زمن حكومة «اللون الواحد» سياسياً، والمصنّفة داخلياً وعربياً ودولياً في خانة «حزب الله» الذي يُمسك أمينه العام السيد حسن نصر الله بزمام أمورها عن بُعد، يخطب فيها وفـي اللبنانيين على السواء مرشداً وموجهاً وواعـظـاً وخبيراً وحاكماً وقاضياً وجــاداً وما إلى هناك من منازل ومواقع.

تـصـرخ «الأم الحــنــون» بلسان وزير خارجيتها جان إيف لودريان «ساعدونا كي نساعدكم» فلا يجد مجيباً، ولــن يجد. فحتى الآن، لا يــزال لبنان يعتقد أنــه قــادر على المناورة والالتفاف وانتزاع فترات سماح جـديـدة، كما سابقاً، حين كــان الخـــارج يُـغـدق عليه الأمــوال والمساعدات لمشاريع إصلاح وخطط تنمية وتطوير، ويغضّ الطرف عن الإصلاحات.

يقول متابعون لمسار المفاوضات مع صندوق النقد إن البحث الدائر

لم يخرج عن إطــاره التقني. قدّمت حكومة حسان دياب خطتها للتعافي المالي التي تقوم على تصفير خسائر الدولة وكأنها شركة تتمّ تصفيتها، كـبّـرت الخـسـائـر ورمـــت بها على مصرف لبنان والمصارف والمودعين من دون استشارتهم أو محاورتهم أو مفاوضتهم. وقـــررت ببساطة مصادرة أموالهم لشطب ديون الدولة دفعة واحدة. تلقّف الصندوق أرقام الحكومة حول الديون التي قاربت 240 ألف مليار ليرة، فيما خرجت لجنة تقصي الحقائق التي انبثقت عن لجنة المال والموازنة في البرلمان، برقم أقل بكثير، بعد جلسات استماع مع أركان القطاع المالي، لم يتعدَ 80 ألف مليار ليرة، بحيث بلغ مجموع الفارق في الخسائر نحو 160 ألف مليار لـيـرة. غــرق الـوفـد اللبناني المتعدد «المنازل والمستشاري­ن» في لعبة الأرقـــام، فاستقال 3 أعضاء منه، واختلط «الحــابــل بالنابل» سياسياً، لكن موقف رئيس مجلس النواب نبيه بري بقي جلياً وواضحاً وحاسماً بـأن أمــوال المودعين هي «قــدس الأقــــدا­س». وهــو موقف لا يتوافق مع توجهات العهد والحكومة وشريكه في «الثنائية الشيعية»، ويتماهى فيه مع الأطراف السياسية في مقلب المعارضة راهناً، ولا سيما سعد الحريري ووليد جنبلاط.

إزاء الخـــافــ­ـات المستعصية حــول الأرقــــا­م، والـتـي تحتاج إلى توحيد المــقــار­بــات عبر توافقات سياسية تــؤمّــن أكـثـريـة نيابية لإنجاز التشريعات المطلوبة، وضع صندوق النقد جانباً الباب المتعلق بــالأرقــ­ام، وانـصـرف لسبر أغــوار

باب «الشفافية والإصلاح». اللائحة طويلة أمامه، والمهمة أصعب وأكثر شقاء، خصوصاً وهو يغوص عميقاً في مغارة «الكهرباء» وشقيقاتها في الاتصالات والجمارك والمرافئ والحـــدود. ثمة حاجة إلـى إصـدار قوانين، وإلى تشكيل هيئات ناظمة )كهرباء، اتصالات، طيران مدني( وإلـــى إنجــاز تعيينات على غير صعيد.

يحمل الصندوق عصا غليظة. ضغطَ بقوة حتى أنجزت الحكومة التعيينات المــالــي­ــة، والــتــي رغـم المحاصصة الفاقعة فيها، ورغـم إقــصــاء «رجـــل واشـنـطـن» محمد بعاصيري عنها، فإن الصندوق نظر بإيجابية إلى الخطوة، وصفّق حين عيّنت مجلس إدارة كهرباء لبنان، ولا يزال ينتظر أن تُبصر التعيينات القضائية النور. جلس مع مجلس الخـدمـة المدنية الــذي يُفترض أن يكون العين الساهرة على جسم الإدارة الذي يُصيبه الانتفاخ ويتم معاينة مقدار الكفاءات والخبرات فيه. وطلب بضبط الجمارك وزيادة عديد خبرائها ومفتشيها. رفع وزير المــال إلـى مجلس الـــوزراء مشروع تعيين مفتشين جدد، وجرى الاتفاق على وضــع أجـهـزة «سـكـانـر» في المرافئ وعلى الحدود لوقف التهرّب الجمركي للبضائع، فيما تبقى مسألة المعابر غير الشرعية عنوانا شائكاً.

يُريد الصندوق تأهيل «مغارة علي بابا والأربـعـن حرامي» في قطاع الكهرباء الـذي كلّف الخزينة أكثر من 40 مليار دولار، ويعادل ما نسبته 45 في المئة من عجز المالية العامة. المـطـلـوب وقـــف الــنــزف الحـاصـل البالغ 2 مليار دولار في العام، ويريد جـــداول واضـحـة ومــحــددة المهلة الزمنية لتشغيل معامل الإنـتـاج وكميتها وليس خططاً بمنزلة «حبر على ورق». يُدقّق بما يُعرض عليه من مشاريع وخطط، وهو العليم ببواطن الأمور وبالصفقات التي مُررت والتي يُـعـدّ لتمريرها. فـا شــيء مخفياً على «جماعة الصندوق» في «لبنان الصغير» حيث وصلت الوقاحة إلى سرقات على المكشوف وإلى اعتبار أن وزارة الطاقة ملك «الحالة العونية» منذ 2011 وحتى اليوم، وإن كانت عملياً منذ زمن الوصاية السورية في يد «حلفاء المحور» الخالصين.

ليس صـنـدوق النقد غريباً عن لبنان، فهو يُعدّ سنوياً تقاريره عنه كما عن البلدان قاطبة. يعلم القيّمون عليه التعقيدات السياسية في البلاد، وطباع المحاصصة والفساد وسوء استخدام السلطة والنفوذ، وغياب الشفافية وتكافؤ الفرص. ولأنهم يدركون، ولأن هناك لبنانيين شغلوا، ولا يزالون، مناصب في هذه المؤسسة المالية العالمية، ويعلمون

بالتركيبة الداخلية وببواطن الأمور، فـــإن الأوراق تـصـبـح مكشوفة وتقلّ فرص المـنـاورا­ت ومحاولات «الـتـذاكـي»، فكيف إذا كانت تلك المفاوضات يستظلها قرار دولي كبير تقوده الولايات المتحدة بمحاصرة «حـــزب الــلــه» اقـتـصـادي­ـاً ومالياً في إطـار تحجيم النفوذ الإيراني، واستعادة لبنان لتوازنه المفقود راهـنـاً، والتي تُشكل الإصلاحات المطلوبة عنصراً حاسماً في تغُّلب منطق الدولة على الدويلة، وكيف إذا كانت دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية الداعم الأكبر للبنان، تصطف إلى جانب القرار الأمريكي، وتجد أوروبا نفسها مضطرة لمراعاة واشنطن، وإن كان رهان السلطة على فرنسا بأن تشذّ عن القرار وتمدّ لبنان بقليل من «الأوكسجين» لإبقائه على قيد الحياة.

ليس متوقعاً في المــدى المنظور تحقيق إنجــازات واختراقات على مستوى المفاوضات مع الصندوق. الاقتناع السائد أن المسار التقني يتماهى ويسير على وقــع القرار السياسي الدولي الكبير. حتى الآن، لا مرشد «سويسرا الـشـرق» ومن خلفه ولـي الفقيه قــرّرا الانصياع لـ«الشيطان الأكـبـر» ولا «أمريكا دونــالــد تــرامــب» قـــررت مهادنة «محور الشر» وبينهما يقف لبنان غير قادر على الصمود في «المنازلة الكبرى الأَشهَر» الفاصلة عن موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، مُعلقاً في الهواء، متحوّلاً إلى دولة فاشلة بعدما أصبحت عاجزة عن توقيع أي عقد باسمها، كبيراً كان أم صغيراً، منذ أن تخلّفت عن دفع استحقاقات الــديــون الخارجية، وأضحت مُلاحقة دولياً!

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom