Al-Quds Al-Arabi

لبنان: الكارثة وانسداد الآلآفاق

-

حتى خلال سنوات الحرب الأهلية والاقتتال الداخلي العنيف لم يشهد لبنان هذه المستويات من الانهيار الاقتصادي والغلاء الفاحش وهبوط العملة الوطنية وشيوع الفقر والجوع والحاجة الماسة إلى الغذاء والدواء وحليب الأطفال، مقابل استهتار الطبقة الحاكمة وتفكك الدولة التدريجي واستمرار أنساق الفساد والمحاصصة الحزبية والانقساما­ت الطائفية وهيمنة «حزب الله» على مقدرات البلد السياسية والعسكرية. مظاهر الكارثة تتعاقب وتتفاقم معها شروط الحد الأدنى من العيش والحياة، ويتأكد انسداد الآفاق يوماً بعد آخر، مما ينذر بالسيناريو­هات الاجتماعية والاقتصادي­ة والأهلية الأسوأ في تاريخ لبنان. )حدث الأسبوع 8 ــ 15)

إبراهيم درويش

يعيش لبنان أحلك أيامه في الحقيقة، حيث تنقطع الكهرباء يوميا فيما يتذكر المواطنون اللبنانيون طوابير الحرب الأهلية والشموع، بل ويستحضر محللون وعارفون بالتاريخ المجاعة الكبرى أثناء الحرب العالمية الأولى. والـصـور التي تأتي من هـذا البلد المعروف بثقافته وانفتاحه وموسيقاه وحياته الليلية صادمة، عن انتحارات في الشوارع ومقاطع فيديو لرجل يجبر صاحب صيدلية تحت تهديد السلاح أن يعطيه حليبا لطفله، وعائلات باتت تبيع مقتنياتها عبر «إي بي» للحصول على طعام للأطفال بالمقابل.

ولم تغب أزمة لبنان الاقتصادية عن عناوين الأخبار مع استمرار انهيار العملة التي فقدت 80 في المئة من قيمتها وحالة الفقر العام التي يعاني منها السكان، حيث تساوت الطبقة المتوسطة بالفقيرة على خط الفقر، والتضخم المتزايد بنسبة 56 في المئة وارتفاع مستمر للأسعار بـدرجـة لـم يعد أصـحـاب المحـات يستطيعون فيها عرض البضائع لأنهم أنفسهم لا يستطيعون شراءها. وأعلن الجيش اللبناني أنه لم يعد قادرا على توفير اللحم لجنوده.

متعددة الطبقات

ومشكلة لبنان المالية مرتبطة بنخبة فاسدة ساهمت قراراتها بتدهور الوضع الاقتصادي في البلاد. وهي متعددة الطبقات ومتراكمة منذ نهاية الحرب الأهلية التي أعادت نفس الطبقة التي خاضت الحرب وتسلمت مقاليد البلاد. وانضمت الليرة اللبنانية إلى قائمة العملات الفاشلة التي تضم البوليفار الفنزويلي ودولار زيمبابوي وبيزو الأرجنتين. والغريب في الحالة اللبنانية، أن هذا البلد الذي لا يتعدى سكانه خمسة ملايين نسمة ويفتخر بنجاحات أبنائه فـي المهجر، بــات أهله يبحثون في النفايات ويصطفون أمام بنوك الطعام لتأمين لقمة اليوم. ويعتقد أن عدد لبنانيي المهجر هم ثلاثة أضعاف سكان الوطن. وحقق اللبنانيون في المهجر نجاحات في مختلف المجالات من صناعة المطاعم إلى الموسيقى )شاكيرا( والفن )سلمى حايك( وحقوق الإنسان )أمل كلوني( والقائمة تطول.

تداعيات قرار

وكانت زيـارات أبناء المهجر لبلدهم سببا في إنعاش الاقتصاد وخلق فرص عمل حيث اشـتـروا عـقـارات وبـنـوا متاجر بـل ووضـع بعضهم ودائع مصرفية نظرا للفائدة العالية التي تقدمها المصارف اللبنانية، والتي تعتبر في مركز الأزمة الحالية. ففي عام 1997 قرر المصرف المركزي )بنك لبنان( تحديد سعر صرف العملة اللبنانية بـ 1507 ليرة للدولار الواحد. واعتمد استقرار لبنان خلال العقدين التاليين على سعر صرف العملة الثابت بالنسبة للدولار. ولأن اقتصاد لبنان قائم بالضرورة على الخدمات المالية ويعتمد على السياحة وتحويلات العاملين من أبنائه في الخـارج، فقد وجد اللبنانيون أن أسهل طريقة للحصول على المال هي إيداع أموالهم في البنوك التي تعطي فوائد عالية. وبسبب الفساد والمناخ غير الجاذب للاستثمار لم يطور البلد مثل جيرانه صناعات مستدامة تعطيه الإكتفاء الذاتي.

ويـسـتـورد البلد نسبة 80 فـي المـئـة من حاجياته الاستهلاكي­ة. فالقمح والـزيـت واللحم وغيرها من المواد الأساسية تستورد

من الخارج. ويستخدم لبنان الدولار الأمريكي من تحويلات اللبنانيين ومـــوارد السياحة والـقـروض والمساعدات الأجنبية لشراء ما يريد. وكما تقول تاتيانا كوفمان في مقال بمجلة «فـوربـس» (2020/7/9( فقد شجع استقرار العملة العاملين اللبنانيين في المهجر على إرســال المــال وشــراء العقارات وإيــداع أموالهم في البنوك. وتبلغ نسبة مشاركة أبناء المهجر في مجمل الناتج المحلي العام 12.5 في المئة. وتضيف المجلة أن «دولــرة» (اقتصاد يعتمد على الـدولار( أسهمت في زيادة تباين في الثروة بحيث باتت نسبة 1 في المئة من اللبنانيين تسيطر على 25 في المئة من الناتج المحلي الـعـام، بشكل حـول لبنان إلـى أكثر الاقتصاديا­ت غير المتكافئة في العالم. لكن استقرار العملة اللبنانية تأثر بالحرب الدائمة في سوريا التي أدت لتدفق مليون ونصف مهاجر سوري إلى أراضيه بشكل أثقل كاهل الخدمات التي توفرها الدولة وخلق توترات اجتماعية ومشاعر معادية وعنصرية ضد السوريين. وبسبب الحصار المفروض على سوريا فقد كانت المصارف اللبنانية هي الملجأ للنخبة السورية لكي تودع فيها أموالها كي تؤمن الدولار لشراء ما تريد من الخارج. وقادت هذه الظروف اللبنانيين للبحث عن أماكن أخرى لإيداع أموالهم وهو ما حفز البنوك اللبنانية إلى رفع الفائدة المقدمة للمودعين بنسبة وصلت إلى 14 في المئة، حيث أصبحت بحاجة دائمة لإيداعات جديدة لكي تدفع الفوائد العالية، وهـو ما قـاد إلـى شكل حالة «سلسلة/لعبة بونزي» التي يعد فيها المساهم بأرباح عالية يتم تمويلها من استمرار تدفق رأس المال. ولم يكتشف المدعون الحيلة هذه إلا بعد فترة.

وبحلول عام 2019 زادت أزمة لبنان المالية مما دعا مدير مصرف لبنان رياض سلامة إلى إصــدار أمر لكل مكاتب تحويل الأمــوال مثل موني غرام وويسترن يونيون للدفع بالليرة لا الــدولار. لكن الطلب على الـدولار الأمريكي استمر، حيث شهدت محلات الصرافة والبنوك إقبالا على شراء أوراق العملة الخضراء، فيما حاول التجار الحصول عليها لتأمين الاستيراد. ومن هنا ظهرت سوق سوداء لتوفير الدولار بسعر أعلى من الصرف الثابت الـذي حدده مصرف لبنان قبل 23 عاما. وبسبب زيادة الطلب على الـدولار بات سعر صرفه 10.000

ليرة أي أعلى بعشرة أضعاف من سعر الصرف الثابت. وفي آب/أغسطس 2019 قررت شركة التصنيف الإئتماني تخفيض تصنيف لبنان من بي إلى سي سي سي.

احتجاج

وترافق انهيار العملة المتواصل مع حالة الاحتجاجات التي اندلعت في تشرين الأول/ أكتوبر 2019 نتيجة قرار الحكومة فرض تعرفة على مكالمات واتساب. وتطورت التظاهرات لحالة غضب تجاوزت الانقسام الطائفي الذي يميز الحالة اللبنانية ورفض للفساد وسوء إدارة الدولة على يد النخبة السياسية التي أفرغت خزينتها. وقـادت تلك الاحتحاجات لاستقالة رئيس الوزراء سعد الحريري، ولأول مرة أعلن لبنان عن تأجيل دفع ديونه. وتقدم بطلب إلى صندوق النقد الدولي للمساعدة في إصـاح ماليته وإعــادة الثقة بها، إلا أن المحــادثـ­ـات تعثرت بسبب المماحكات بين الساسة والمصرفيين حول حجم الخسائر ومن يجب عليه دفع الثمن. واستقال مفاوضان من وزارة المالية نتيجة للخلافات في وقت دعا فيه صندوق النقد الدولي التحرك وبسرعة. ولم تثمر بعد محاولات الحكومة لمنع تدهور العملة اللبنانية بما في ذلك تحديد تسعيرة لمحلات الصرافة. ونظرا لفقدان الثقة في الحكومة ازداد الإقبال على تخزين العملة. وفي البداية حددت المصارف كمية سحب المال بـ 300 دولار ثم عادت ومنعتها. ومن لديهم عملات صعبة بالدولار لا يستطيعون نقلها للبنوك في الخارج ولا يسمح لهم بسحب إلا كمية قليلة بسعر صرف 3.850 ليرة للدولار مما دفع الكثيرين لتجنب الخـسـارة. وأصبح الحـد الأدنــى من الأجر هو 675.000 ليرة، أي 450 دولارا حسب سعر الصرف الرسمي و70 دولارا في السوق السوداء والــذي يستخدم في تسعير المواد الاستهلاكي­ة مثل الملابس ومــواد التنظيف والغسيل. ولخوف التجار من عدم وفاء البنوك بواجباتها المالية فقد باتوا يرفضون البطاقات الإئتمانية لأن الموزعين لا يتعاملون إلا بالنقد.

ووسط حالة الفزع وعدم الاستقرار أصبح من لديه الـقـدرة المالية يخزن المــواد المعلبة وعبوات الغاز للطبخ وغيرها من الضروريات تحسبا لحـدوث نقص في السوق. وتوقفت الإشارات عن العمل ولم تعد الشوارع تضاء في الليل. وتعاني هذه من الإهمال وانتشار الحفر.

عاش فوق طاقته

وعــلــق تـقـريـر فــي «بـلـومـبـي­ـرغ نـيـوز» )2020/7/7(

أن ربط سعر الصرف لليرة بالدولار خلال الــ 23 عاما الماضية منح لبنان القدرة على تقديم الدعم للمواد المستوردة وسمح للناس بالعيش في وضع جيد أبعد مما يستطيعون الحصول عليه. كما ان قيمة الفائدة العالية التي دفعت للمودعين جذبت اللبنانيين في الشتات لكي يـودعـوا تحويلاتهم وثبطهم عـن القيام بأعمال تجـاريـة، لأن اللبنانيين يستطيعون الحصول على عائد كبير من خلال الإيداع في البنك. وعندما جفت التحويلات قام المقرضون بتحديد سحب الــدولار، ومن هنا اضطر أصحاب الأعمال للبحث عن الـدولار في السوق السوداء ودفع الفواتير المستحقة عليهم للمزودين في الخارج. كما وازداد الطلب على الدولار من اللبنانيين لدفع أقساط بيوتهم وسياراتهم وإرساله لأبنائهم الذين يدرسون في جامعات أجنبية.

كوفيد - 19

وأضاف انتشار فيروس كورونا في العالم إلى متاعب لبنان الاقتصادية، فمع الحرب والفساد وانهيار العملة جاء الحجر والإغلاق العام الذي أفرغ الشوارع من المحتجين لكنه حرم الآلاف من وظائفهم وبدون مال لشراء الحاجات الأساسية. فسعر كيلو اللحمة الذي كان يساوي 9 دولارات بات الآن 43 دولارا. وفي وقت الأزمة خرج بعض السياسيين المسؤولين أصلا عن الأزمة بحلول غير عملية مثل اقتصاد الإعتماد على الذات ولكن الناس ليس لديهم المـال لشراء البذور والأسمدة حتى يطوروا زراعة وطنية. ويظل طوق النجاة في مساعدات صندوق النقد الدولي، والمؤسسات الدولية الأخرى. لكن صندوق النقد لا يقدم دعمه بدون حزمة إصلاحات مؤلمة على المواطنين الذين يعانون الآن من ارتفاع الأسعار والبطالة. وفي البعد السياسي تظل مشاركة حزب الله في الحكومة مبررا لعدم وصول الدعم الأمريكي.

والمشكلة اللبنانية جذرية وتحتاج إلى حلول جذرية والتخلص من أوهام الماضي وسيطرة أمـراء الحـرب السابقين والعائلات الوراثية الطائفية المتخمة في وقت يجوع فيه الشعب. وكما يقول ديفيد غاردنر في «فايننشال تايمز» (2020/7/7( فقد عاش لبنان في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية من خلال المنح والقروض الخارجية وتحويلات أبناء المهجر. وتم ربط عملته بطريقة غير واقعية بالدولار. ولم يمرر البرلمان اللبناني ميزانية من حوالي 11 عاما أما بنك لبنان الذي يقع في قلب الأزمة فلم ينشر حساباته منذ 15 عاما. وتم إقراض نسبة 70 في المئة من إيداعات البنوك التي لديها ودائع ضعف حجم الاقتصاد اللبناني إلـى دولة مفلسة قائمة على نظام الغنائم الطائفية. ويرى غاردنر ان النخبة الحاكمة مختلفة حول كيفية حل الأزمة وتقاسم العبء، والمشكلة هي أن النخبة الغنية فوق ما يتخيل لا تبالي، خاصة أن معظمها نقل أمواله إلى الخارج أو موجودة هناك قبل الأزمــة. ولعل الخـاف بين النخبة حول كيفية معالجة الأزمة هو سبب في تردد صندوق النقد الدولي التقدم ومنح لبنان 3 مليارات كقروض.

الفرج من الصين

وفي ظل الخلافات أعلن زعيم حزب الله حسن نصر الله أن لبنان سيتوجه إلى الشرق، الصين طلبا للمساعدة. وكلام نصر الله واضح وهو أن على لبنان ألا يبحث عن النجاة في صندوق النقد الدولي. وتعلق أنشال فوهرا في «فورين بوليسي» (2020/7/9( أن تصريحات نصر الله أثارت دهشة الكثير من اللبنانيين، لكنه ليس الوحيد الـذي يدعو للتوجه نحو الشرق، ولو حدث هذا فسيكون فصلا جديدا غير معروف النتائج في بلد ظل ينظر إليه كقطعة من الغرب. وكـان نصر الله قد اتهم الولايات المتحدة بوقف تدفق الـدولار لخنق الاقتصاد اللبناني. وردت واشنطن أن الحزب هو الذي يخزن الدولارات في وقت أصدر فيه قاض قرارا الأسبوع الماضي أمر فيه السفيرة الأمريكية دوروثي شيا بعدم التحدث للإعلام بعد نقدها حزب الله. وأي خرق يعني غرامة 200.000 دولار. كما أن فرض قانون قيصر على سوريا أدى لمنع المصارف اللبنانية من الاستفادة من عقود إعــادة إعمارها. وترى فوهرا أن الصين تنتظر في الغرفة الجانبية لكي تحـل محل الــولايــ­ات المتحدة، مشيرة إلـى أن الشركات الصينية تحـاول منذ عقد الإستثمار في البنى التحتية اللبنانية، فيما باتت الصادرات من الصين تشكل نسبة 40 في المئة من مجمل صادرات لبنان. وعززت بيجين من العلاقات الثقافية من خـال بناء مركز موسيقي في بيروت، وساعدت في أثناء حرب عام 2006 بالإضافة لاستخدامها القوة الناعمة في أزمــة كورونا وأرسلت المعدات الطبية. وتشاور الأطباء اللبنانيون مع الصينيين حول كيفية مواجهة كوفيد-19. إلا أن محاولات التقارب مع الصين لن تترك أثرا على الأزمة خاصة أن النظام الاقتصادي اللبناني قائم على الـدولار. وهناك بعد آخر وهو أن الصين مهتمة بمشاريع طويلة الأمـد ضمن «مبادرة الحزام والطريق» وإصلاح، مثلا، سكة الحديد من بيروت إلى طرابلس والساحل السوري مـرورا بحمص. ومن هنا يقول سامي نادر، المحلل السياسي إن الاستثمارا­ت الصينية تحتاج لوقت وعندما تصل يكون لبنان قد مات. وشكك عضو في البرلمان بتبني الاقتصاد اللبناني المتأمرك الصين.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom