Al-Quds Al-Arabi

تدقيق لغوي

- ٭ كاتب سوداني

طرحت منذ أيام على صفحتي في فيسبوك سؤالا عــن أيهما أحــق بالاعتــرا­ف به، فــي الكتابــة باللغة العربيــة: الأخطــاء الشــائعة المشــهورة، أم التعابير الصحيحــة، التي قد لا يعرفها أحد، ولا تســتخدم إلا في المناهج الدراسية؟

وأوردت مثــالا على ذلــك، جملة: علــى الأقل، التي يقــول خبراء اللغة العربية، أنهــا خطأ، والصحيح أن تكتب: في الأقــل، وتلك الجملة عرفتها لأول مرة حين قــرأت نصا عثــرت عليها فيه، ولم أحبها أو أستســغ نطقها وكتابتها على الإطلاق.

كانت المداخلات داعمة لوجهة نظري، في معظمها، وتتلخــص فــي أن الكتابــة الإبداعيــ­ة، غير مشــغولة بالضــرورة بمــا هــو صحيــح أو خطــأ، بقــدر ما هي مشــغولة بالإبداع نفســه، الإبداع المتمثل في اختراع عوالــم وتطويرهــا، ورصفهــا بالمعرفة، مــع ضرورة وجــود المتعة فــي النصوص، التي لولاهــا لما وصلت إلينا أفــكار كثيرة، فالكاتب في رأيــي مطالب بجانب اختراع العوالم، وبث الأفكار، أن يعثر على الإســلوب الملائم والسلس لجذب القارئ، وأعتقد أن ثمة روايات عظيمــة، لم تجد قارئها بســبب خشــونة أســلوبها، واســتخدام الكاتب لأدوات لغوية جارحة، ســاهمت في هجر القارئ لنصه مبكرا، من دون أن يكمله، بينما نجــد على العكــس أعمــالا تعرضت لمواضيــع صعبة مثــل الفلســفة والمنطق وعلــم النفس، شــدت القارئ بأسلوبها، وأعطته المعرفة المطلوبة بصورة رائعة.

ولعــل أفضل مثــال على ما ذكــرت، روايــة «عالم صوفــي» للنرويجي جوســتاين جاردنــر، الصادرة لأول مرة عام 1991، ونقلت إلى أكثر من خمســن لغة عالمية، وساهمت دار المنى المعروفة في نقلها للعربية. إنهــا رواية عن الفلســفة، لكن يصبح تذوق الفلســفة أمرا سهلا حين تدمج في عوالم طفلة.

وعندنا فــي العربية قلت مــرة أن كتابة الصحراء، وأســاطيره­ا، وما تخبئه من خوف وســحر، وتقاليد لا يعرفها أحد، لم تكن ليكون تذوقها بهذه السلاسة، لولا كتابــة إبراهيم الكوني، وإبراهــــ­يم مــن القلائل الذيــن عثروا علــى أســلوبهم باكــرا، وأمتعونا بذلك الأسلوب.

أعــود لموضوعي، عــن اســتخدام اللغة الشــائعة، وحقيقــة ليس مطلوبا من الكاتب أن يلم بكل شــاردة وواردة فــي اللغــة التي يكتب بها، ونعــرف أن معظم المبدعين هم أصلا ليسوا تلاميذ أو أساتذة لغة، وإنما قدموا للإبداع من مهن عديدة لا علاقة لها بما يكتبون، أو لنقــل إنهــم كانوا يكتبــون منذ الصغــر، والتحقوا بدراســات بعيدة عــن الكتابة، وظل مــا يقدمونه في المجــال الإبداعي، مجرد إشــباع لهوايــة، من الصعب التخلي عنهــا، ومن الصعب ممارســتها وحدها، لأنه لا عائــد مادي، يأتــي منها، ويمكن الاعتمــاد عليه في الحيــاة اليوميــة، خاصــة في البــاد العربيــة، حيث يظــل الكاتب مجرد كاتب، بلا ترقيــة، أي بلا أجر من استثمار كتابته.

وكنت مــرة قبل أن ألــج بكثافة في عالــم الكتابة، تعرفت إلى موظف في دار نشر أوروبية كبرى، أبدى اهتمامــا بكتابين لــي، ووعد بترجمتهمــ­ا للإنكليزية، لكــن حين قدمهما لدار نشــره، كان الــرد الذي قرأته: نحن مســتثمرون في مجال الكتابة، وهذا الكاتب قد يكون جيدا، لكن ليس اســتثمارا جيــدا. وفي كتابتي للنصــوص الروائيــة، أو حتى للشــهادات الإبداعية، والمقــالا­ت التي التزم بها مع الصحف والمجلات، لا بد تعثر على أخطاء ما، أخطاء قد تكون لغوية أو نحوية، أو من تلك التي أشــرت إليها بأنها أخطاء شائعة، لن تجرح تــذوق أحد، وفــي الحقيقة لن تلفــت نظر أحد أبــدا، إذا لم يفعل أحد المتربصين بالنص ذلك، مثل أن تكتب: نفس الشــيء، بدلا من: الشــيء نفسه، وأمثلة أخرى عديدة

أنا أقبل التصحيح اللغوي بلا شك، وأقبل التحرير إن كان ثمــة محــرر متمكن لا يشــوه العمل أو يتخطى حــدود التفاعل المســاعد، إلى محاولــة التأليف، لكن غالبــا لن أقبــل أن يعد أحــد الأخطاء الشــائعة، التي أســتخدمها متعمــدا، ويكتبهــا في مقال عــن نصي، يفتــرض أنه مقال نقــدي، واهما أنه يهــز مكانة لدى القــراء، لم أعثــر عليها مصادفة، وإنما نتاج ســنوات طويلــة من القــراءة، والمحاولات الجــادة للعثور على أسلوب كتابي.

ولعل وجود أســاتذة اللغة العربية، وسط جمهور تلقــي أمامــه شــهادة إبداعيــة، أو تقرأ شــذرات من تجربتــك، يعقــد بعــض المســائل، حيث يشــعر ذلك المعلم للغة بخيرها وشــرها، بأنه جرح باســتخدام­ك لتعابيــر، لن تروق لــه أو لمنهجه، ويحــاول جاهدا أن يصلك اســتياؤه، وتلــك مســألة تعــودت عليها، ولا أهتم بها كثيرا، وأذكر أنني لاحظت مرة أثناء حديثي فــي إحدى الجامعات عــن رواية «العطر الفرنســي،» أمام الطلاب وأســاتذته­م في قســم اللغة العربية، أن أحد الأســاتذة انتفض فجأة حين اســتخدمت تعبيرا شــائعا، وحــن انتهيت أســرع إليّ وطلــب أن أعطيه شهادتي المكتوبة، لكن في الحقيقة، لم أعطه لها، قلت له بأنها مســودة، ســأقوم بتصحيحها وإرسالها له، لكن ذلك لم يحدث.

ومن الأشــياء التــي أرقتنــي مؤخرا، أن عــددا من أســاتذة اللغة العربية والباحثــن فيها، كانوا يعدون تقريرا عن اســتخدام اللغة في النصــوص الإبداعية، وغيــر ذلك من ضروب الاســتخدا­م، وكلفوني بكتابة مقال طويل بعض الشــيء، في هذا الشأن. وقد قمت بالكتابــة كما أكتب دائمــا، لكن يظــل هاجس تدقيق المقال لغويا يلازمنــي، وأن تقريرا عن اللغة العربية لا بد يحتفي بها نظيفة من الشائع والمستخدم.

عمومــا نحــن نكتــب، ونراجع مــا نكتــب، ونلتزم بلغتنا بقــدر ما نعرف ونســتطيع، وشــخصيا أؤمن كمــا قلت بالاختصاصـ­ـات، فالمختــص أدرى من غير المختص بكل تأكيد.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom