Al-Quds Al-Arabi

وليمة بـ«زجاج مطحون» للسوري إسلام أبوشكير

- إسلام أبو شكير ٭ كاتب عراقي

تضعنــا روايــة «زجاج مطحــون» منشــورات المتوســط/ ميلانــو - إيطاليا الطبعــة الأولى: 2016 للروائي إســام أبو شــكير، في مواجهة شرســة وأزمة وجودية مســتحكمة مع الذات، وهي تتحرى جــدوى وجودها في مكان معطى ومظاهــر تكفل لها الحياة والعيش، بــدون ان تعطيها حرية التصرف والانتقال والإجابة على الأســئلة المصيرية. ويمهد الروائي لطرح هذه الإشــكالي­ة الكبرى بســرد حكاية )إسلام ابو شكير( الذي يستعير اسمه من اسم المؤلف، مستثمرا ســنوات العمر، وفق سلســلة من أربع شــخصيات تحمل الاســم نفسه بأعمار متنوعة: عشــريني وثلاثيني وأربعيني وخمسيني، ليكشف للمتلقي أن المراحل الطبيعية لعمر الإنسان، لا تحتمل تغييرا في حياته أو انتقاله، مهمة في الإجابة على أســئلته او انعطافة خطيرة في ســلوكه، وتجديدا واضحــا فيها، فمراحل العمر توكيد على مرور الزمن، بدون أثر على الفضاء الذي تسكنه الذات.

إن عبثية الوجود وكوابيســه وقدرية تسلطه على الذات، ترفع الإشكالية إلى مستوى يلامس الأعماق، ويدعوها إلى التمرد وطرح الأسئلة بدلا من الشكوى، التي درجت الــذات على تقديمها للمجهول الــذي كان يجيب مرة ويمتنع مرات، باســتثمار الحلم والمخيلة والابتكار وتصنيع ما يمكــن تصنيعه لتوكيد حضور الذات وسط جبروت التسلط والإلغاء.

لقــد أثــث الروائي خطابــه الروائــي بمجموعة دالــة من الرموز والإشــارا­ت والابتكارا­ت التي عززت هذه الإشكالية، وفتحت أفقأ للخلاص في الوقت نفسه. بداية يجد )إســام ابو شكير العشــريني والثلاثيني....( نفسه )أنفسهم( في مــكان معزول بدون نوافــذ أو أبواب، أو أي منفذ، مجــرد فضاء محصور بين جدران يشــبه القبر، لكنه يكفل ما يديم حياة الإنســان فيــه. والحدث المعطى يســجل أزمة وجود الإنسان بشكل مكثف، وسط مظاهر الحياة التي تعينه على العيش، فالإنسان هنا يملك كل مقومات حياته، ولكنه وحيــد ومعــزول بدون معــن أو منقذ، وهي إشــكالية أخرى تعالجهــا الرواية، وفق ما يتوفر لشــخوصها من مفردات دالة على الفعل والتمرد على السكون.

تســرد الرواية بضميــر المتكلم، ثــم ينعطف إلى ضمير المتكلمين، في رحلة بوح لا ينظمها سارد معــن، فهي تنطلق مــن ذات واحدة، بعد أن اكتشــف الجميــع أنهم يحملون الاســم والشــكل نفســه، ليتكفــل الســارد الخمسيني بمهمة السرد )يحمل اسم الروائي وهو من مواليد 1966( ويستغرب السارد مظاهــر )النعمــة والترف( فــي معتقل عربــي، فيؤكــد أنــه إنسان عادي وبسيط، لا يمكــن أن يقابــل بهــذه الحفــاوة والرفاهية التي يفتقدها في بيته، مــا يعني أن هذه الإشــكالي­ة، لا تعنى بشــخوص إشــكاليين مــن فئة المثقفين والأدباء، أو الشــعراء، بل يعنيها الإنســان وأزمته في وجود مشاكس

كان لســان حالهم يقول: «لا نريد أكثر من إشــارة بسيطة تشعرنا بأننا لسنا وحيدين، أو معزولين عن العالم»، وكان نتيجة الشــعور بهذه العزلة إحســاس كل واحــد منهم )هم شــخصية واحــدة( بأنه يعيــش داخل قوقعــة، أو يحمل قوقعته على ظهره، فتكون عزلته مطلقة وخانقة.

وإذا كانت الرواية تنحو إلى تجســيد هذه الغربة فهي تعنى أيضا، وبشــكل واضح إلى إثارة فاعلية الإنســان للخــروج من هذه العزلــة الخانقة، والانفراج

باســتعارة مفــردات دالــة على ذلــك، يوظفهــا الروائي بديــا عن الفعــل المقيد للشــخصية ضمن عالم مصنوع ســلفا بالعلاقة مع مفردتــي الغياب والحضور المستثمرة في العديد من البحوث الثقافية والنقود الأدبية. ومن أهم المفردات التي تشــي بثنائية العزلة والانفــرا­ج )الحلم بأمل جديد( هــي: القوقعة، المرآة، الاســم، الحــرب، والرواية لا تعالج هــذه المفردات بطريقة تجريدية، بل وفق التجربة التي يعايشها شخوص )شخص( الرواية. فحضور )القوقعة( في إحساســهم وشــعورهم ينمــي العزلة والفردية، علــى الرغم من تعددهم، ويشــي بالســكون وعــدم الفاعلية، فيبــدو فضاء الحكايــة مفرغا من أي فعــل )الأفعال الواردة في المــن هي أفعال مجردة عن الحركة مثل: أســعل أتنهــد.. أتأفــف...( وهــي تكرس شــعورا بالعزلــة «أحدنا كان يحمــل قوقعته علــى ظهره يــذرع الغرفــة جيئة وذهابــا...». «الآخــر دس نفســه داخــل قوقعته مســتلقيا على أحد الأسرة». «الآخر تكــور داخــل القوقعــة على ســريره أيضا». وحالما يقررون الجلوس معا، ومناقشة الحال التي هم فيها تتكسر القواقع وتنحسر، تعبيرا عن شعورهم بالانفــرا­ج ومقاومــة العزلة: «جلســنا حول الطاولــة كانت المــرة الأولى التي نجتمع فيها هكذا كما لو أن القواقع التي كنا نختبئ داخلها قد تحطمت». ومن المفــردات المهمة التي اســتثمرها الروائي، تعويضا عن الفعل والتغيير في السلوك مفردة )المرآة (، وهي من أهم الرموز التي تطرحها الرواية، بوصفها قرين التعرف على الذات، فالمــرآة التي يتعــرف فيها الطفل علــى ذاتــه لأول مــرة )المرحلــة المرآويــة لدى لاكان( هي رمز لتجلي )الأنــا( واتضــاح الهويــة، وتجلــي ملامحهــا، كمــا أن المرأة تجســد واقعية الوجود، لينحســر الخيال إلــى الوراء وهي ترمــز للحضور الذي يجســده ظهــور الصورة واختفاؤهــ­ا، يكــرس الغربــة والضيــاع وفقدان الهوية، فحضور المرآة في المكان المشــخص، يشــي باتضــاح الهويــة، ويلغــي غربــة الكائن، لكــن غيابها القســري في هذه المغامرة الحياتية، يعني اغترابا وتيها تعيشــه شــخوص الرواية، فقد لاحظوا )عــدم وجود مرآة في المكان كله(، وكان ذلك مدعاة للاســتغرا­ب والتساؤل، ثم بدأت مرحلة الطلبات «الححنا في طلب المرايا، لا نفهم حتى الآن لمــاذا يرفضون تزويدنا بأي مــرآة»، لتأتي بعد ذلــك العبارة الدالة علــى الضياع والغربة، حين يبوحون بعذاباتهــ­م التي كلفتهم «عانينا كثيرا، نزفنا دماء غزيرة، ونحن نمرر شيفرات الحلاقة على وجوهنا كما لو أننا عمي». وحقيقة الأمر ليس الحلاقة، بل الضياع وفقدان الاتزان في هذه )الدائرة المغلقــة( كما وصفوها في مــكان آخر مــن الرواية، والدخول في هــذا الانتظار الممــض الذي لا يعرف مــداه. وإذا كانت المرآة الغائبة علامــة على غياب الهوية، في هذا المنفى الإجباري، فإن الروائي يســتبدل غيابها بحضور )الاســم( الذي يعني تجســيدا للذات المشخصة، وإلغاء للتيه الذي تجد الشخصية نفسها فيه، ويعمد الروائي إلى )لعبة( فنية يســتثمر فيها اســمه الشخصي، علامة على أن الواقعة ممكنــة الحدوث، وليســت تجريدا عن المنفى والغربة، ويشفع ذلك تشابه الشخوص، بوصفهــم قرائن أو توائم «نســخ مكررة كما لو أننــا توائم بين الواحد والآخر فارق عمر مقداره عشــر ســنوات»، وهي تقنية ما يســمى )تعدد الصــوت الواحد( التي يطرحها وجود ســاكن، تبحــر فيه الذات بحركة دائرية مكررة ذاتها على الرغم من تغير الزمن.

وفي القســم الثاني مــن الرواية تظهر مفردة )الحــرب( وهي تتصدر الفصل الثانــي وتلقي أعباءها على الفصول الأخرى، حيث تغيب )الأصوات( في بداية الفصل الثاني: «اختفت أصواتنا فجأة في أحد الصباحات». «اســتيقظنا ونحن لا نتكلم»، وأصبحت الكلمات مجرد أصوات «غير مفهومة تنطلق من الحناجر»، وبهذا أشــاعت مفردة الحرب الصمت المطبق واليــأس، وألغت التواصل والألفة التي وجدوا أنفسهم فيها. لكنها أضاءت لهم سبل الابتكار والاجتهاد والاعتماد على النفس، حتى استطاعوا أن يجدوا لغتهم الجديدة «بأبجدية خاصة وقواعد ونحــو» فكانــت «لغة تخاطــر عبقرية أكثر منهــا لغة إشــارات». وتعكس هيمنة مفــردة )الحــرب( على فضــاء الرواية، تراخيــا متدرجا في قبضة المتســلطي­ن، وصعود )الأنــا( ليتم تطهيرها مــن درن الهزيمة والاتكاليـ­ـة والعزلة، والمطالبة بضرورة تحســن شــروط حياتهم ومقاومــة الوحدة والعزلة. ولســان حالهم يردد: «ليس لدينا ما نخسره.. الموتى وهم موتى لن يرضوا بعار الاستسلام».

لقــد بنى الروائــي عالمه الافتراضــ­ي، وفق فروض يمكن أن تحــدث في واقع الحيــاة مشــفوعة بالتســاؤل الأزلي الذي يشــغل فكر الإنســان حــول جدوى الوجود، خاصــة إذا تعرضت الذات إلى الحصار والعزلة، ثم أثثه بالاســتفه­ام وأشــكال الاستغراب عن القوة، التي وضعتهم في هذا المكان، بدون شعور منهم بهــذا التغيير الذي أصــاب حياتهم، مع أنها إشــكالية وجود بالقــوة تقاد فيها الــذات منــذ الولادة وإلى المــوت، بدون أن يكون لهــا رأي أو قــرار بالتأجيل، أو التســريع في الأمرين كليهما، وســيكون على الذات أن تبحث وتنقب عن أسباب ارتقاء حياتها بديلا عن ضمورها وانطفاء ضوئها.

لقــد وعــى الروائي هــذه الإشــكالي­ة الكبــرى، ورســم على ضوئهــا مصائر شــخوصه، منقبا في ثنايا عقولهم لتحفيزها على الخروج من قوقعة العزلة إلى فضاء الحريــة، الذي تجده في مفــردات اللغة التي تغــذي أرواحهم «بالتحليق هنــاك بين الحين والآخر نحتاج إلى هذا كي لا نتحنط»، وكانت مفردة )النافذة( هــي المنقذ، «نافذة واحدة تكفي... نافذة صغيرة.. بما يســمح لعينين بشــريتين أن تتســلل بنظراتهمــ­ا إلــى الخارج عبرهــا.. لا نحتــاج أكثر من ذلــك»، وحينها قــرروا التنفيذ لتكون النافذة بهذا الشــكل الافتراضي «كانــت النافذة إطارا من بقايا الخشــب، جمعناها من هنا وهنــاك، ثبتنا الإطار علــى الحائط، ثم أرخينا فوقه ســتارة صنعناهــا من ثياب قديمة». لقــد كان ابتكار النافــذة والباب على هذه الهيئة، جنوحــا نحو عالم الخيال والحلم، فواقعهم لا يســتجيب لرغباتهم وآمالهم.

هناك اســتغراق مطــول لتداعيــات متنوعة تفرضهــا مفردة )الحــرب( على فضــاء الروايــة، تنقــل أفقها مــن الافتراض والأســئلة الشــائكة التــي أعطتها شــمولا إنســانيا، إلى وقائع الحياة، حيث يظهر فيها: غياب الأسماء، ومصائر الجثث، «ضحايا يسقطون، ودماء وثارات، وأحقاد، وأطفال وشباب ونساء..» كل ذلــك يدعوهم إلى المشــاركة فــي الحرب بشــكل فعلي، وهو أمر مســتحيل فيأملون إشراكهم بشــكل رمزي. وكل ذلك استطالة لا مبرر لها في عالم روائي مضغوط ومنضبط، يســرد حكاية رمزية ترفعها إلى مستوى الأفعال الرمزية، التــي كرســتها بعض الروايــات العالميــة ذات المنحى الرؤيوي، فــي حين يحيل الاســتغرا­ق في مآســي الحرب وويلاتها إلى أنماط وأشــكال وثيمات مألوفة، جسدها العديد من الروايات العربية.

 ??  ??
 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom