Al-Quds Al-Arabi

هل تحققت تنبؤات الفرنسي ميشيل دي نوسترادامو­س؟

- ٭باحث ومؤرخ من العراق

ترجمــة إنكليزيــة لكتــاب «التنبــؤات» لنوســتراد­اموس نشــرت عــام 1672 وموجودة في مركــز جامعة تكســاس للصحة والعلــوم في مدينة ســان أنتونيو. ماذا يمكن أن يكون العامل المشــترك في رأي الملايين من الناس، وفي مختلف أنحاء العالم بين اغتيال الرئيس الأمريكي جــون كندي عام 1963 والثورة الفرنســية عام 1789 والحربــن العالميتين، ونزول الإنســان على ســطح القمر عام 1969، ومقتل الأميرة ديانا عام 1997، ووصول نابليون إلى ســدة الحكم في فرنسا وهجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول عام 2001 وجائحة كورونا الحالية، وكل كارثة في تاريخ العالم قد يفكر بها القارئ؟

الجواب هو أنها جميعا ســبق أن تنبــأ بحدوثها شخص فرنسي عاش في القرن السادس عشر اسمه نوسترادامو­س، الذي يعتبر أشــهر مُنَجّم في تاريخ البشــرية. ولكن الســؤال الذي يُطرح دائما هو، هل تنبأ «نوسترادامو­س» فعلا بكل هذا؟ أم أنه كان مجرد محتال بارع؟

من هو نوسترادامو­س

ولد ميشــيل دي نوســترادا­موس عــام 1503 فــي منطقة سَــينت رمي دي بروفنــس فــي جنوب فرنســا، لعائلة ميسورة نوعا ما. وكان طالبا مجتهدا، ودخــل الجامعة، ولكن هذا لم يدم طويلا، حيــث أقفلت الجامعة أبوابها بسبب تفشي وباء الطاعون فــي أوروبــا، فامتهــن الصيدلــة، وتنقــل من منطقــة إلى أخــرى في القارة الأوروبيــ­ة لبيع المواد الطبية لعلاج الأمراض المستعصية، خاصة الطاعون الذي لــم يكن له أي علاج آنذاك، بل إن الكثير من هذه الأدوية والأســالي­ب كانت مضرة بالصحة بشــكل خطير. وبعد ســبع سنوات أصبح طالبا فــي جامعة مونتبليير الفرنســية لدراســة الطب، ولكنه سرعان ما فصل من الجامعة بسبب عمله الســابق صيدليا، الــذي كان يُعَــدّ مهينا للأطباء آنذاك، وكذلك ســوء تصرفه تجاه أســاتذته، ولذلك عاد إلى ممارســة الصيدلة، ونجح فيها، حيث كان الطاعون يثير الهلع في أوساط المجتمع الأوروبي، وأصبح الناس يتهاتفون لشــراء كل ما يمكن في خيالهم أن ينقذهم من تلك اللعنة. والظاهر أن نوســترادا­موس، نال شــهرة لا بأس بها، بســبب ما كان يبيعه والنصائح الطبية التــي كان يقدمها، على الرغم من أنها لم تكن ســوى خزعبلات، ولم يلاحظ زبائنه أنه كان يعاني من مشاكل صحية

تنبؤات نوسترادامو­س

لم تكن تنبؤات نوســترادا­موس واضحة المعالم على الإطلاق، فالتفاصيل مبهمة جــدا، ولم تحدد تاريخا للأحداث المتنبأ بها. وكان واضحا أنه قد تقصد جعل ما كتبه غامضــا، لأنه لم يكن تنبؤا، بل كلاما عــديم المعنى، كي يختلف الناس في تفســيره، فقــد كان عمله في نهاية المطاف احتيــالا ذا مظهر علمي، ولذلك فقد اعتمد ما ســمي تنبؤاته على خيال القارئ في تفســيرها، وبالتالي فإن تفســيرها كان يعاد كلما حدث شــيء مهم في العالــم، ويتم اختيار نص مختلف له من قبل كل من يريد نســب التنبؤ لنوســتراد­اموس. وكان كل تنبؤ يُكتَب على شــكل شعر بســيط من أربعة أبيات. ويعتقد المؤرخون أن أغلب ما قــام به كان عبارة عن إعادة صياغة تنبؤات ســابقة، ذكرت في كتب مؤرخين رومان وإغريق معروفين مثل، الإغريقــي بلوتارك، بل إنه أخذ كذلك نبوءات، سبق أن ظهرت في كتاب معروف نشر عام 1522 باللغة اللاتينية، وكتب أخرى مثل التوراة. ويعني كل هذا أن كتاباتــه، لم تكن في الحقيقة تنبؤات، فالتنبؤ يحدد التاريخ والحدث، بحيث يســتطيع المرء توقع وقــوع الحدث بدقة قبل حصوله، ولكن هذه الصفة كانت مفقودة في كتاباته، ولذلك يتم ربط التنبوء بالحدث بعد حدوثــه دائما. والغريب في الأمر أن كل الاقتباســ­ات الواضحة التي قام بها نوسترادامو­س، لم تلفت نظر المهتمين بعمله. وإذا صادف أن فسر أحدهم إحدى النبوءات بشــكل معين وخاب أمله، فقد كان يســتطيع أن يجد نبوءة أخرى لتعليل ذلك. وكان أحد أهم الانتقادات ضده بسبب ما ادعاه حول اعتماده على حركة النجوم بالنســبة إلى أحداث، ســبق حدوثها في الماضي، وأن حركة نجوم مشــابهة في المستقبل سوف تســبب أحداثا مشابهة، واتهم بأنه هاو للتنجيم من قبل كبار المنجمين حينذاك.

وتنشر الكتب باســتمرار مدعية أنها تحوي ترجمة لأعماله، ولكن الخبراء أجمعوا على أن هذه الترجمة ســيئة جدا دائما، لعدم إلمام مؤلفيها بلغة فرنسا في القرن الســادس عشــر، بل إن بعض هذه الكتب تلفــق نصوصا لم يكتبها الرجل كي تناســب أحداثا مهمــة في التاريخ حدثت قبل صــدور هذه الكتب، ولذلك فإن نصوص التكهنات التي من المفروض أنها تنبأت بمقتل ملك فرنســا هنري الثاني، واغتيال جــون كينيدي، والنزول على القمر، وهجمات الحادي عشــر من ســبتمبر، ظهرت بعد وقوع هذه الأحداث. ولنأخذ مثالين شهيرين ببعض التفصيل، الأول هو تنبؤه بمقتل ملك فرنســا هنري الثاني 1559، تقول القصة إن زوجة الملك الفرنســي قرأت في كتاب نوســترادا­موس عن مخاطر تحدق بالعائلة المالكة الفرنسية، وكان المنجم الخاص بها لوكوس إوريكوس، قد أبلغها بتنبؤ حول مقتل الملك الفرنســي، فاســتدعت نوســترادا­موس إلى باريس عام 1556 لمعرفة رأيه حول تنبــؤ منجمها، فقام بتحذيرها من أن الملك ســيقتل في مبارزة، ولكن الملك لم يأبه للتحذير، وقام بمبارزة اســتعراضي­ة بالرماح، وهو على متن حصــان. وكانت نتيجتها أن رمح خصمه اخترق عينه وصولا إلى مخه، وتوفي الملك الفرنســي بعد عشــرة أيام مــن الآلام المبرحة. وعلى الرغم من تأكيد المصادر لمقتل الملك الفرنســي بهذه الطريقة، فإنها تؤكد كذلك على أن التنبؤ المزعوم، لم يظهر إلا بعد خمسة وخمسين عاما بعد الحادثة الشــهيرة. والثاني هو تنبؤه بحدوث هجمات الحادي عشــر من سبتمبر عام 2001، وهي حكاية انتشرت بشكل واسع، بعد حدوث تلك الواقعة، فإن النصين اللذين نسبا إلى نوسترادامو­س ظهرا بعد الحادثة ولم تكن لهما علاقة به، بل إن أحدهما كان قد نشر أصلا في مقال حول سهولة تلفيق التنبؤات.

تطور أسطورة نوسترادامو­س

وجد الكثيرون نوسترادامو­س مادة دسمة لجني المال عن طريق بيع الكتب، ما أبقى أســطورته حية. وأخذت القصص عن حياته تزداد مع الوقت، فتحول إلى طبيب متخرج من جامعة مونتبلييه الفرنسية وأستاذا جامعيا في الطب، وأنه درس علوما ســرية لم يعرفها ســواه. وأصبحــت كل مرحلة من حياته خيالية، وحتى وفاتــه، حيث ادعى أحد الكتاب أن نوســتردام­وس، كان قد أوصــى بعدم نقل رفاته بعد دفنه، إلا أن رفاته نُقِلَت أثناء الثورة الفرنسية، ويضيف هذا الكاتب أنه عندما أُخرِج جثمانه اكتُشِــفَ وجــود لافتة علــى الجثمان تحوي تاريخ ذلك اليوم مع تحديد الساعة، بالإضافة إلى لعنة ضد من اشترك في إخراج الجثمان، وقد أثبــت المؤرخون بطلان هذه القصة تماما. وأصبحت شــهرة نوســترادا­موس كبيرة، إلى درجة أن دولا في أوروبــا ادعت أنه تنبأ بانتصارها في حروبها. وبدأت هذه الشهرة تزداد بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أخذت الكتب المثيرة تنشر بكثرة لا مثيل لها مختلقة مختلف الأشياء عنه وعن تنبؤاته، وكل ما تحدث كارثة في مكان يتم نســبها إلى نوسترادامو­س، من أجل بيع الكتب وجني المال. وامتد ذلك إلى السينما والتلفزيون والإنترنت. وآخر ما ذكر عنه حتى الآن أنه تنبأ بجائحة كورونا الحالية.

التنجيم في عهد نوسترادامو­س

كان الكثيرون من علمــاء وكبار مثقفي أوروبا في الفتــرة التي عاش فيها نوســترادا­موس، أي القرن السادس عشر، يمتهنون احتيال التنجيم، وتقديم التنبؤات لأثرياء وملوك أوروبا، وكان هذا مصدرا مهما لكسب المال. واعتمدوا على مفهوم مفاده أن دراســة مواقع وحركات النجوم، تؤثر جذريا في الحياة على الأرض، وبذلك ادعى هــؤلاء أنهم كانوا قادرين على التنبؤ بالمستقبل في كل مجــالات الحياة، إذ أخذ المنجمون يقدمون النصــح حول مواعيد الحصاد والري والمد، وعلاج الأمراض، وتوقع الكوارث والمشــاكل السياسية وأشياء كثيرة أخرى، وأصبحوا جزءا مهما من حياة حكام أوروبا في القرنين السادس عشــر والسابع عشر، فمثلا كان لملكة بريطانيا اليزابيث الأولى المنجم الخاص بها. وكان أشــهر المنجمين في العالم الألماني يوهانيــس كيبلر الذي عمل لدى أباطــرة الامبراطور­ية الرومانية المقدســة، وكانت عاصمتهــم مدينة «فيينا» النمســاوي­ة. وعلى ما يبدو أن كيبلر كان يعرف جيدا أن التنجيم ليس ســوى مجموعة من الخرافات، ولكنه اســتطاع القيام بأبحاث علمية حقيقية، جعلته أحد أشــهر العلماء في التاريخ، حيــث أصبحت أبحاثه في علــم الفلك مهمة جدا بالنســبة للعالم البريطاني أســحق نيوتن، عندما كان يبحث في مجال الجاذبية.

ولكن كيبلر أيضا وجد في التنجيم مصدرا مهما للمال والوصول لأصحاب القــرار في أوروبا. وقد أفاده ذلك عندما نجح في إنقاذ والدته من حكم الإعدام حرقا بعد إدانتها بتهمة الســحر. وهناك عالم كبير آخر برز في هذا المجال، هو غاليليو، الذي كان المنجم الخاص لدى عائلة مديتشي الإيطالية في فلورنسا. وكانت لغاليليو مكانة خاصة في علمي الفلك والفيزياء، وتعتبر مساهماته من المنجزات العلمية الخالدة.

ويبين الحجم الهائل لأســطورة نوســترادا­موس، أن الإنسان يتميز بميل واضــح لتصديق الخرافات، حتى إذا كان متعلما، ففي عصر نوســترادا­موس كان عدد المتعلمين في البلدان الأوروبية ٪16، وهم الطبقة التي لمع فيها اسمه. أما في العصر الحديث، فإننا نجد أن شهرته أكبر من الماضي بكثير، على الرغم من المستوى العالي للتعليم وانتشاره حاليا.

 ??  ?? مؤلمة، بــدون أن يجــد علاجا لهــا. وقام نوســترادا­موس عام 1550 بنشــر كتاب Almanac( التقويم )الذياحتوىع­لى توقعات بالأنــواء الجويــة ومواعيد المد والجزر والكسوف والخســوف، وأشياء أخرى. وكانــت هذه الكتب ذات شــعبية كبيرة في تلك الفترة في أوساط المزارعين وتجــار الحبوب والبحــارة. ولاقى كتابه نجاحا كبيرا، على الرغم من عدم استناده إلى أي أســاس علمي، حيث لم يكن سوى مجموعة مــن التكهنات ولكنها كانت كافية لجعله شهيرا في فرنسا، ولذلك قرر إعادة كتابة ونشــر الكتاب مرات عديــدة، إلى درجــة أنه كان أحيانا يعيــد كتابته ثلاث مرات في الســنة، وبلغ مجمــوع ما حوته هذه الكتب ســتة آلاف وثلاثمئة وثمانية وثلاثين نبوءة، حيث أخذ يضيف تنبؤات في مجالات أخرى تدريجيا في هذه الكتب، وأخذ يهتم بفرع من مفهوم التنجيم، يركز على علاقة خرافية النجوم بالحياة على الأرض. ولكن شهرته الحقيقية بدأت عــام 1555، عندما نشــر كتابــه الشــهير تحــت عنوان «التنبؤات»، الــذي ضم ما تنبأ به مــن أحــداث كانت ســتهز العالم في المستقبل. وكان ذلك الكتاب سببا رئيسيا في زيادة شهرته في جميع أرجاء فرنسا، بشــكل خاص وأوروبا بشكل عام، حتى أصبح من مشــاهير الشــخصيات الأوروبيــ­ة في عصر النهضة. ودعاه مشاهير الشــخصيات تلــك الحقبــة ليكون منجمهم. وبذلك أصبح طبيب زوجة ملك فرنسا هنري الثاني ومستشــاره­ا. واستمر في إضافــة نبــوءات جديدة كل ما نشر نســخة جديدة من كتاب «التنبؤات» وعاش حياة مرفهة حتى توفي عام 1566.
مؤلمة، بــدون أن يجــد علاجا لهــا. وقام نوســترادا­موس عام 1550 بنشــر كتاب Almanac( التقويم )الذياحتوىع­لى توقعات بالأنــواء الجويــة ومواعيد المد والجزر والكسوف والخســوف، وأشياء أخرى. وكانــت هذه الكتب ذات شــعبية كبيرة في تلك الفترة في أوساط المزارعين وتجــار الحبوب والبحــارة. ولاقى كتابه نجاحا كبيرا، على الرغم من عدم استناده إلى أي أســاس علمي، حيث لم يكن سوى مجموعة مــن التكهنات ولكنها كانت كافية لجعله شهيرا في فرنسا، ولذلك قرر إعادة كتابة ونشــر الكتاب مرات عديــدة، إلى درجــة أنه كان أحيانا يعيــد كتابته ثلاث مرات في الســنة، وبلغ مجمــوع ما حوته هذه الكتب ســتة آلاف وثلاثمئة وثمانية وثلاثين نبوءة، حيث أخذ يضيف تنبؤات في مجالات أخرى تدريجيا في هذه الكتب، وأخذ يهتم بفرع من مفهوم التنجيم، يركز على علاقة خرافية النجوم بالحياة على الأرض. ولكن شهرته الحقيقية بدأت عــام 1555، عندما نشــر كتابــه الشــهير تحــت عنوان «التنبؤات»، الــذي ضم ما تنبأ به مــن أحــداث كانت ســتهز العالم في المستقبل. وكان ذلك الكتاب سببا رئيسيا في زيادة شهرته في جميع أرجاء فرنسا، بشــكل خاص وأوروبا بشكل عام، حتى أصبح من مشــاهير الشــخصيات الأوروبيــ­ة في عصر النهضة. ودعاه مشاهير الشــخصيات تلــك الحقبــة ليكون منجمهم. وبذلك أصبح طبيب زوجة ملك فرنسا هنري الثاني ومستشــاره­ا. واستمر في إضافــة نبــوءات جديدة كل ما نشر نســخة جديدة من كتاب «التنبؤات» وعاش حياة مرفهة حتى توفي عام 1566.
 ??  ?? نوسترادامو­س
نوسترادامو­س
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom