Al-Quds Al-Arabi

خالد سعيد... شاعر الثورة المصرية

- ٭ كاتب لبناني

عندما كتب نزار قباني، قصيدته التي يتســاءل فيها «لماذا لا يصلب الشــعراء؟». ما كان يتصور أن الزمن ســوف يدور دورته، وأن كثيرا من الشعراء ســوف يكونون يوما ما، أول المرشحين للســير في طريق الجلجلة، وأن المئات منهم سوف يكونون من النزلاء المقيمين، في سجون الأنظمة، من أجل كلمة قالوها، أو رأي يحملونه في جيناتهم. إنهم مبدعون، رفضوا الانحنــاء عند أقدام الساســة، والذلة والمهانة، واســتباحة خيرات الأوطان، والفســاد المستشــري، وفكرة التطبيع مع العدو الصهيوني، إنهم أنبياء هذا العصر، والُمبشــرون حقا بالثــورة والحرية، وبيوم جديد آخــر، في زمن أصبحت فيه الخيانة وجهة نظر.

قليلــون الذين تنبهــوا منا، إلــى موهبة شــعرية مهمة، بالعاميــة المصرية، خصوصا أنه لم يســبق له أن نشــر أي ديوان، لأســباب سياســية بالدرجة الأولى، تعيشها أرض الكنانة في هذه المرحلة، الأســوأ فــي تاريخها. ففضل البقاء علــى صفحــات العالــم الافتراضــ­ي الأزرق، كمــدون على الفيســبوك، ينشــر شــعره، وبعضا من آرائه السياســية والاجتماعي­ة. وشــاء القدر أن يحمل شــاعرنا، وشهيد ثورة شباب مصر خالد سعيد الاســم نفسه. وهو بحد ذاته شــرف، ولكنه مســؤولية كبيرة، عليه أن يدافع عنها، وبالتالي يدفع ثمنها مضاعفا.

الشاعر المبدع خالد ســعيد، ابن ثورة يناير/كانون الثانــي المجيدة، وأحد الذين ســاهموا فيهــا بفعالية، وجد نفســه بعــد انقــاب 30 يونيو/حزيــران، وقد صودرت ثورته، وأن حجارة قصــور أحلامه، تهاوت حجرا وراء حجر. ولم يبق منها شيء. حتى مجرد ذكر «ثورة يناير» أصبح جريمة. فــكان أمام أحد خيارات؛ الهجرة وتــرك بلده ورحِمِــه، أو الصمــت، أو القيام بالتطبيل والتزمير لنظام تســلطي قمعي، يتعارض مع كل المبادئ، التي قام هــو ورفاقه من أجلها بالثورة، أو أن يختار لنفســه طريقا غير مُمَهَّــد، وعنوانا دائما في فنادق الترفيه الوطنية الفخمة، ومنتجعات ســجون الدولة العميقة! سابولي حِتَّة من أرضك وقالوا لي ده وطن زِنْزانة مَفْروشة بَلاط وقالوا لي ده السَّكن ‪* ** *‬ والسِّجْن مهما يِزيد وبابُه يِبْقى حديد مِسيرُه يوم حَيْصَدي وكُل حُر يِعَدي ‪* ** *‬ قرر الشــاعر خالد ســعيد البقاء فــي مصر. ينتظر الفرج المقبل لا محالة. وكذلك عدم الســكوت، ومتابعة الطريق، والدفاع عما يؤمن به مــن مبادئ، غير عابئ بالنتائج، لأن الهجرة بالنســبة له انهزامٌ واستسلامٌ، وتســليم البلد لمن اغتصبوا ثورتها، وثار في الأساس ضدهم. والتخلي أيضا عن أصدقــاء، ورفاق طريق ونضال. رفــض الخروج من مصــر، لأنه لا يملك عصا النبي موســى، يحملها خارجا من الكنانة، فتفلق البحر أمامه، لينبلج النور، وتتنزل عليه الوصايا التي أولها قاوم، وآخرها لا تســاوم... لا تساوم. لن أهاجر لن أسافر والبقاء لن يكون بالسكون البقاء هل أكون.. أو لا أكون ‪* ** *‬ فهل نُغادر المدينة ونستغيث بالخَلاء ونستكين للهزيمة تحت رداء البلاء؟ ‪* ** *‬ ألقــي القبض عليه أكثــر من مرة، وتمت اســتضافته في إحداها قرابة الســنة، بعدما دبجوا له تهما كاذبة، وكانت له في السجن تجربة مُرَّة، أطلق من بعدها سراحه، ثم ما لبث أن اعتقل مؤخرا في ديسمبر/كانون الأول 2018. وهو إلى اليوم ينتظر في سجنه إخلاء سبيله، لكونه لا يوجد ضده أي تُهْمة، إلا الإصرار على مبادئ ثورة يناير، ورفضه الُمساوَمَة، ولعب دور المطبلاتــ­ي الــذي لا يجيده إلا العبيد، وحلم كل شــباب مصر العروبة، ومتابعة نظم الشــعر المناهض للديكتاتور­ية، والقمع، وتكميم الأفواه. تكمن مأســاته فــي أنه أراد أن يظل رأسه مرفوعا دائما. في مجتمع حولوا معظم مثقفيه وأفراده العاديين إلى خانعين. مأســاته في حبه لمصر. والوفاء لدماء شهداء ثورتها، ولدورها الريادي. وهو ما عبر عنه في معظم شعره منه قصيدته «تحيا مصر» منها: مصر تَحْيا.. ومصر تَحْيا.. تحيا مصر للحرامي، واللي سارق الفلوس تحيا مصر.. ومصر تحيا للصوص تحيا مصر للقُضاة والأكابر مصر تحيا للعوالِم والعَساكِر تحْيا مصر باللي قام من غير فِطار مصر تحيا وهي نَازْلة في انْحِدار تحيا مصر غَصْب عني وغصب عنَّك مصر تحيا والتَّمن دمِّي ودمك تحيا مصر بالكلام والوعود مصر تحيا باللي فرط في الحدود مصر تحيا بالفقير اللي اتْعَدَم تحيا مصر للرئيس والوزير والخَدَم تحيا مصر بالكفيل.. مصر تحيا باللي راضي يكون ذليل! تحيا مصر بالعساكر والحِراسة مصر تحيا بالخيانة.. وده الخلاصة! يتميز شــعر خالد ســعيد بحبكة قوية، وجمــل قصيرة، أشــبه ما تكون بهتــاف في تظاهرة، أو بشــعار سياســي، وأيضا ببَســاطة التعبير، بدون تقعر لغوي، باستخدام لغة عامية قريبة إلى الفصحى، يســهل فهمهــا من غير المصريين، وألفاظ محملــة بدفق الثورة على الظلم والطغيان، ومفردات مشحونة بعمق الفكرة، التي تغوص في تفاصيل الجراح، ما يأسر القارئ ويجعله يحس بالمرارة التي تحملها إليه الصور المتتالية، فــي أبيات قصائــده، المعبرة بصدق عــن الواقع، فالحب والمشاعر الإنسانية، بالنســبة لشاعرنا تتلخص في مصر الوطن، وقلب العروبة. مصر المركز، والإنسان عَمودها الفقري، والحرية روحها، والثــورة وقودها ومحركها... فلا يغيب عن قصائــده التحريض على الثــورة، لتحقيق أماني الشــعب، والحلم بالغد، على الرغم من الأوضاع المزرية التي يتناولها في أشعاره، مؤكدا على حتمية نجاح الثورة: واللي يقولك ثورة وماتت قوله الثورة سَبْع أرْواح أول روح صَحِتْنا وفاتِتْ أما التانْية هِتاف وكِفاح شَكْلْ الثالثة زَيِّ الرابعهْ نفس الموته نفس الطبعه الخامسة بِتُصْرُخ وتصحينا بَسْ نِمِدْ لِبَعْض إيدينا تيجي السادسهْ بِطعم النصر تِلْقى السابْعة جُوَه القصر... وقد برع الشــاعر خالد ســعيد في نظم الرباعيات، التي كانت تســمى بـ«الدُّوبيت» الذي اشتهر في بغداد أيام الدولة العباســية، وهي عبارة عن توافق في قافيتين أو أربع قواف. وهو ما يطلق عليه في علم العروض أيضا «التصريع». يسير فــي ذلك على خطى الــرُّوَّاد من أمثال صــاح جاهين، وفؤاد حداد، وإبراهيم رضوان، وغيرهم من أبناء الكنانة الولّادة... ويظهــر تأثره في الشــاعر أحمد فؤاد نجــم واضحًا وجليا، من حيث بعض الصور الشــعرية، وكذلك فــي القضايا التي يطرحها، وحِدَّة العبارات وثوريتها، ومن رباعياته:

قولوا لمصر بلدي كفايه

ليه الموت بقى فيكي غايه كل ما أقول الصبر الصبر ألقى ولادي شُهدا في قبر ‪* ** *‬ مُشْ مِلاقي فيكِ لُقْمه ولا حتى تَمَنِ الحُقْنه كل اللي فيكِ جوع وكل يوم مَوْجوع! ‪* ** *‬ أطفالُ سوريا تُناجيكُم، تُناجيكُم، تُناجيكُمْ أندلس سقطتْ وأنتم في حُضْن جَواريكمْ بغداد سقطتْ منْ أجلِ كراسيكُمْ سوريا تموت، والنخوة تموتُ فيكمْ... ‪* ** *‬ وتشــكل كل رباعية من رباعياته موضوعا، أو إشــكالية اجتماعية أو سياسية معقدة، يُبسِّــطها، ويقدمها للقارئ في أربعة أبيات، أشبه ما تكون بقصة قصيرة جدا )قص ج(من حيث البنية، ومــن حيث توفر أركان القصة القصيرة، وتركه لباب الُمتَخيل مفْتوحا. ويلعب إيقاع موسيقى التفعيــات وتوقيعاتها، والقافيــة دورا مهما في إحداث الانفعــال، في دواخل القارئ. فتهز أعماقــه، وكيانه، وتحدث لديــه تفاعلا، قد لا يُحْدثه المقال العادي. بكره هتِرْجَع أوْسخ صورة ناس في السجن، وناس في الذل وناس مقْهوره وناس مَلْهية في ماتْش كوره وحاشية بِتفْرح في المقصوره... ‪* ** *‬ والطير زيِّ السَّما بيِعْشَقْ ظهور النور فارد جِناحه إنَّما عالي عليه السُّور! ‪* ** *‬ لقد شــكلت ثــورات الربيــع العربي حدثا مهما، بالنســبة لشــباب العروبة. وأكدت لهم بشــكل لا شــك فيه، ذلك التناغم بين الأنظمة الحاكمة، من أجل ضمــان مصالحها الخاصة، والحفــاظ على كراســي حكمهــا، والأهم من ذلــك أمن إســرائيل، وأنها تعمل بــا كلل، أو ملل، على إيصال شــعوبنا إلى مرحلة القناعة بالكيان الصهيوني المغتصب لأرض العروبة، والاستسلام التام له. ومن هنا وجد شاعرنا، وشــريحة كبيرة من الشــباب فــي العروبة، وعاءً ثقافيا يجمع شــتات الجميع، ويشــكل منطلقا نحو مشروع مســتقبلي، يواجه هذه الأنظمة، وخططهــا، طبعا بــدون الغرق في بحار الأدلجــة، والتنظير العقيــم. ومن هذا المنطلق، كان إيمان الشاعر خالد ســعيد بالعروبة، وتناوله لمشاكل، ومآسي الوطن العربي في رباعياته، وقصائده. منها: لا تُنْجِبي لي ولدي هنا الطوفان لا تلدي! هنا الوطن العربي لا تنجبي لي ولدي فلن يسلم من بني وطني ولن يسلم من يد الغربي فلن يسلم من يد الداعشي ولن يسلم من يد المالكي ولن يسلم من يد الحوثي ولن يسلم من يد الروسي ولن يسلم.. ولن يسلم.. ولن يسلم... هنا الأرض بلا معنى هذا الموت يجمعنا هنا الحكام تخدعنا هنا بشار والموتى هنا الـ.. ماخــور والخيانة ، الصارخ مــن وراء القضبان بأعلى صوته: وأمانة يلي يومْ حَتْزور شهيد أوعى تُقولُه من الزعل زادوا العبيد ‪* ** *‬ رسالة بالصوتْ سجن الوطن موتْ والعيشة من غير قوتْ روح بين الحياة والموتْ... ‪* ** *‬

 ??  ?? خالد سعيد
خالد سعيد
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom