Al-Quds Al-Arabi

لا تتركوا لبنان وحيدا

- ٭ شاعرة وإعلامية من البحرين

رجل مســن يعاني من أمراض مزمنة ألقى بنفســه من شــرفته، ولقي حتفه لأنه لم يعد قادرا على شراء أدويته، ولا من معين. رجل آخر قصد أحد مقاهي شارع الحمرا الشهير، وربما تناول قهوته المفضلة لآخر مرة، قبل أن يصوب مسدسه إلى رأسه وينهي حياته. وثمة رجلان آخران قررا مغادرة الحياة بالطريقة نفســها، بعــد أن أصبح المــوت البطيء يوميــا عذابا ليس في مقدورهما تحمله.

أربعة انتحارات في ظرف أربع وعشــرين ساعة، تناقلتها وســائل الأخبار اللبنانية، ومواقع التواصل الاجتماعــ­ي بغضــب، احتجاجا على مــا وصل إليه لبنان مــن وضع حرج ولا من حل فــي الأفق. تصلني هذه الأخبــار المحزنة عن لبنان الجميــل من أصدقاء يتمسكون بالحياة، وهم يغرقون في اليومي المأساوي الذي أصبح قدرهم.

أسمع منهم أخبار التجويع، وغلاء الأسعار عشرات الأضعاف، وانقطاعات الكهربــاء، واختفاء أنواع من البضائع والمواد الغذائية والأدوية، وأشــعر بالأسى، لأنني عاجزة عن فعل شيء، فهذا البلد شهد كثيرا من لحظات فرحي، كما كان دوما منجبا لكل ما أدهشني من فن وإبداع وتصميم. لبنان كان مدرستنا جميعا، حين قدّم لنا أجمل القصص والقصائد والحكايات والفنون، وقد فعل ذلك دائمــا، بطريقة أو بأخرى، لأنه جزء من تركيبته البشرية، وطريقة تفكير أبنائه. ونحن جميعا ـ ولســت وحدي ـ ممنونون له على هــذا الدور الذي أداه أبناؤه على أكمل وجه.

الشاب الذي ترك رسالة يقول فيها «أنا مش كافر»، أحالنا بــدون أن يدري إلى نبوءات زيــاد الرحباني القديمة، وخيبة خليل حــاوي، ولبنان بكل وجوهه، سواء ذاك الجميل الذي نحتفظ به في وجداننا باسم «سويسرا الشرق»، أو ذاك المخدوش والمشوّه، بسبب حرب الطوائف، وحروب الآخرين فيه، مع اســتحالة بناء وطــن عربي واحد، يحضــن كل أبنائه إن حدث واختلفوا في المعتقــد الديني أو السياســي، ويكون مشروعا يوحدنا على اختلافنا.

لقد عشــنا خيبات عربية كثيرة لكــن خيبة لبنان اليوم تبدو لي أكبر من نكســة 67، التي لم نشف منها بعد. كون النكســة ظلّت قابعة على أنفاســنا، إلى أن فرّخت نكســات أخرى طالت كل من يحمل ولو شــيئا بسيطا من هذا الانتماء للهوية العربية. منذ أيام فقط كتبت لي صديقة من بيروت رسالة قصيرة تقول فيها: «في هذه الأثنــاء خمدت أصوات مولــدات الكهرباء، ولكن هدير الطائرات الإســرائي­لية في ســماء لبنان مستمر».

هل أخبركم الحقيقة؟ شــعرت أن خنجرا اخترقني ومزق أحشــائي! كانت المفارقة عجيبــة، بين أصوات تخمد وأخرى تعلو، ومصائــر مجهولة للبنان، الذي ينام على مصيبة ويســتيقظ علــى مصائب جديدة. عادت بي الذاكرة إلى الأيام التي كنا نتابع فيها أخبار الحرب الأهلية، حين كان لبنان بالنسبة لي بلد فيروز، والرحابنة، وحكمت وهبي، ووديع الصافي، ونصري شمس الدين، وأنسي الحاج، وغيرهم من الأسماء التي خاطت ثوب أحلامنا، وجعلت قلوبنا تســافر عاشقة كل مســاء وصباح مع الخبر اللبناني للاطمئنان على بيروت. مرّ ذلك الشريط الجميل أمام عينيّ، لأكتشف أننا جمعنا - أهل القلم والفنون- أبناء لبنان البهي، فقد زرع أبناؤه بذور أحلامنا، ورعاها عن بعد، واليوم من الإجحاف أن نصمت ونتركه وحيدا.

حتى الأفلام اللبنانيــ­ة الرديئة، أفلام الثمانينيا­ت التجارية، كنا نحبها، فقد وصفت جانبا مهما من طريقة حياة اللبنانــي، الذي يعيش يومــه بكامل جوارحه بدون أن يأبه للغد، ويبقى متمســكا بالحياة إلى آخر رمق. ما زلــت أتذكــر التنانير القصيرة أو الماكســي الطويلة جدا للممثلات، وحجم الباروكة الشقراء التي تضعها نجمــة الفيلم، والحواجب الرفيعة البشــعة، والشــفاه الحمراء الفاقعة، وبناطيل الســبعيني­ات الواسعة، والأحذية ذات الكعوب المضحكة. بعض تلك الأفلام، حــن تبث الآن أعيد مشــاهدتها، لا لانتقادها أو للضحــك على رداءتها بل لإنها شــاهدة على عصر بأكمله، وهي بشــكل ما تكشــف جانبا مهما من تاريخ لبنان، أمّا ما آل إليه هــذا البلد من مصير محزن، فهو حتما مرتبــط بالماضي، وما ترتب عنــه من تراكمات. في بعــض تلك الأفلام تبرز صفقات الفســاد كمعادلة صادمة نتائجها واضحة اليوم. يحضرني فيلم مارون بغدادي «حروب صغـــــــي­رة» وفــــيلم «أشــباح بيروت» لغســان ســلهب، فانكمش في فراشــي من الخوف، إذ لا بد أن تلك الصور تعكس واقعا مأســاويا رهيبا لا يعرف حقيقته سوى اللبنانيين، وذلك ما يملأ مخيلاتهم اليوم، وهم على شــفا حفــرة من الانهيار الكامل... يا إلهي لا أريد لأيّ صورة من صور الحرب أن تحلّ على لبنان، حتى إن كانت حربا صامتة، ثمة حلُّ في مكان ما، حــل يعرفه الجميع لكنهم حتما ينتظرون أمرا ما.

أمور كثيرة ربطتني ببيروت، قبل أن يصبح لي فيها أصدقاء حقيقيون، سيشكلون جزءا مهما من علاقاتي الأدبيــة والإنســان­ية. وبدون التركيز على شــخص معين، والتعاطف مــع البعض على حســاب البعض الآخر، يؤلمني فعلا مــا آل إليه هذا البلد، فقد اجتمعت فيه كل معاييــر النجاح، وكل معطيــات التفوق على جميع الأصعدة.

لقد قال لي أحدهم ذات يــوم: «ينجح اللبناني في كل العالم، ويفشــل في بلده»، وهذه العبارة تختصر الكثير، فمن يعتبر لبنان مجــرّد مصيف لأهل الخليج فهــو مخطئ، إذ أعتقد أن الخليجي حســب إمكانياته المادية، بمقــدوره أن يقضي عطلته فــي أي مكان في العالم، لكن ما يربطه بلبنان عاطفة إنســانية سامية، محبــة واحترام كبيران، ولا تفســير للمحبة إن أردنا تفســيرها... لبنان أيضا قبلة للمثقفين الذين وجدوا فضاء حرا لأقلامهم وأصواتهم، لقد جمع شتات مئات منهم، ومنحهم بعض الاســتقرا­ر، قبــل عبورهم نحو عواصم أخرى، كما منح لكثيريــن منهم ما لم يجدوه في أوطانهم. ما الذي تغير إذن؟ ما القراءة التي يمكــن أن تنطبق على لبنان اليوم وســط الخريطة العربية؟ فــي قول للرائعــة دارينا الجندي في فيلم «أشــباح بيــروت» تنقبض قلوبنا، حين تخبرنــا أن الحرب لــم تنته في داخلهــا، لأنها تعيش حربا ثانية ولا أعرف كيف أنهيها، ثم تسترسل في وصف شــعورها ذاك قائلة: «خيبتي الكبيرة حين انتهت الحرب، كأني وقتها أحلم أكثر، الآن أحلم أقل.. كنت أتمنــى أن تنتهي الحــرب لأحقق كل مــا أريده، فانتهت، فــإذا بي أرى كل شــيء صغيــرا». هل هي شروخ تلك الحرب؟ هل هو العطب الدائم الذي تركته في أبنائها؟ هل هو شــيء آخر مرتبط باختلال توازن القوى؟ فكل حرب لها نتائجها السيئة طويلة الأمد، أم أنه أمر آخر لا يمكن للمثقــف إدراكه وهو خارج لعبة المقاتلين، حتــى إن عاش الحرب، وتلقــى ضرباتها؟ من العبث أن يكون نصيبنــا الأوفر من كل ما يحدث ـ كمسالمين، وصناع للأمل- بعض البكائيات وتدوينات ما قبل الموت لا أقلّ ولا أكثر.

لقــد كانت الكلمــة ولا تزال أقوى ســاح يمكن أن يمتلكه الإنســان، فهل يمكن لأنين هــذا البلد أن يخمد وينتهــي صوته إلى الأبــد؟ بالطبع قد نكتب أشــياء كثيرة عــن الأمل، ومقاومة الصعــاب، والنهوض من العدم، لكننا هنا لســنا بصدد كتابة قصــة أو رواية، إنه واقع معاش، وأي كلام مبالغ فيه عن الغد المشــرق والآمــال المنتظرة في الأفق قد تكون ســببا مباشــرا لينهي أحدهم حياته شــنقا أو رما بالرصاص.. لبنان الغاضــب، المفجوع، المصدوم، الفاقــد لعنفوانه، مثل موسيقي سرقت كمنجته، أو رسام خربت أعز لوحاته، يقف في مفترق طريق خطير، يقف وحيدا...

فلا تتركوه وحيدا... لا تتركوه رجاء.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom