Al-Quds Al-Arabi

أردوغان: «أنا لم أتغير ولكني تطوّرت»

- *كاتبة أردنية

مســاجدنا ثكناتنا قبابنا خوذاتنا مآذننا حرابنا والمؤمنــو­ن جنودنا هذا هو الجيــش المقدس الذي يحرس ديننا

هي أبيات للشــاعر التركي ضياء غوك ألب، التي ألقاهــا الرئيــس التركي رجب طيــب أردوغان من قلب ميدان ولاية «سيرت»، شرق تركيا في ديسمبر عام1997 ، ثم عــاد وألقاها، في المكان نفســه، بعد 18 عامًا، وهي الفترة التي كابد فيها ابن حي قاســم باشــا ورفاقه المشــاق والصعاب، قبل أن يمُنَّ الله على الذين اسْتُضعِفوا ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين. ولكنّ الحدثين رغم تطابقهما، اختلفا في الأجواء والأصداء، ولكل منهما حكاية ورواية، وإشارات ودلالات.

من كان يصدق أن إســطنبول ســوف تكون أنموذجًــا راقيًا تتطلع كل بلديــات تركيا إلى اللحاق به؛ فقط لأن العمدة كان ذلك الشــاب من حزب «الرفاه»، الــذي خطف بريقه كل الأنظار، واتخذ من العمل الجاد شــعارًا ومــن الإخلاص دثارًا. لكنّ الآلــة العلمانية الجبارة، لم تكن تســمح لهذا الشــاب، ذي الجذور الإســامية، بالصعود والتنفّذ؛ فاســتغلت يوم أن وقف بولاية ســرت في ديســمبر 1997، وألقى تلك الأبيــات ذات الصبغة الإســامية الواضحة، لتكشــف تلك الزُمرة عن مبادئها الُمزيفة المتناقضة، فسُجن العمدة أردوغان بتهمة تهديد أمن البلاد، وزرع الفرقة واستنهاض مشاعر العداوة، وأوقعوه قسرًا تحت طائلة المادة 312 من قانون العقوبات التركي، كل ذلك من أجل أبيات تعبر عن هويته الإسلامية. سُجِن عدّة أشهر، لكنه أطلق كلمته التي وافقت ما جرت به أقلام القدر: «هذه ليست النهاية، بل البداية». وفي يوم تنفيذ الحكم، تصل الحشــود إلــى منزل أردوغان، وتؤدي معه صلاة الجمعة في مسجد الفاتح، فألقى على مسامعهم خطبته التاريخية وكان مما قال خلالها : «وداعًا أيها الأحباب، تهانيّ القلبية لشعب إسطنبول وللشعب التركي وللعالم الإسلامي بعيد الأضحى المبارك. إنني لســت ممتعضًا ولا حاقدًا ضدّ دولتي، ولم يكن كفاحي إلا من أجل سعادة أمتي، وسأقضي خلال هذه الشهور دراسة المشاريع التي توصل بلدي إلى أعوام الألفية الثالثة، التي ســتكون إن شــاء الله، أعوامًا جميلة، سأعمل بجد داخل السجن، وأنتم إعملوا خارج السجن كل ما تستطيعونه.»

وبعــد 18 عامًا: يقف أردوغان في المكان ذاته بكل شــموخ، ويتلو على مســامع شــعبه الأبيات ذاتها، لكن الأجواء اختلفت، بعــد أن هبّت رياح التغيير، وأينعت ثمرة الحرية.

«دخلت السجن بســبب قراءتي شــعر ضياء غوك ألب في هذا الميدان بتاريــخ 17 ديســمبر 1997، رغم أن الشــعر موجود في جميــع المناهج التعليمية الرســمية ومُصدّق من قبل وزارة التعليم ومجلس التربية. هل تذكرون ذاك الشــعر؟ هل تعرفونه؟ هل نســتطيع قراءته مرة ثانية؟ لنرَ معا إلى أين وصلت تركيا.. لنعرف معًــا معنى الحرية». ليبعث بعدها إلى أصدقائه وأعدائه معًا رسالته الذكية: «أنا لم أتغير، ولكنني تطورت». تلك هي عبارة أردوغان التي أدلى بها بعدما صار زعيمًا لتركيا، وهي الرســالة ذاتها التي يبعث بها للجميع: «أنا لم أتغيــر، ولكني تطورت». مؤكدا على هويته الإســامية التي شــكك بها البعض ووضعوه فــي خانة العلمانية والقومية. هي رســالة واضحة إلى العلمانيين، بأن عهد الدولة الكمالية قد ولى وانقضى زمانه، فلن تهيمن مبادئ أتاتورك على البلاد ثانية، ولتبقى على الجدران ممثلة في صورة أتاتورك حتى تأكلها الأرضة. سقوط الخلافة وإلغاء النظام الإســامي في تركيا لا يمثل شــعور الأمة التركية، أو يُعبر عن قناعاتها، وإنما هو عمل قامت به زمــرة حاكمة مُهيمنة. وإذا عدنا إلى البداية وجدنا أن إسقاط الخلافة عام 1924، كان مُخطّطًا أجنبيا تم الإعداد له ســرّا قبلها بمائة عام، وتم تنفيذه على يد يهود الدونمة بالاشــترا­ك مع جمعية الاتحــاد والترقي، وتركيا الفتاة، والمحافل الماســوني­ة، في الوقت الذي حمل فيه الســلطان عبد الحميد لواء الجامعة الإسلامية، فكان إلغاء الخلافة على يد مصطفى كمال أتاتورك، هــو الحلقة الأخيرة في المؤامرة. لكن هذه العلمانية الوافدة التي حــاول الكماليون فرضها على واقع الأمة التركية، كان أشبه بمحاولة زرع نبات في تربة ومناخ غير صالحيْن، حيث أن الشعب التركي له إرثه الثقافي الممزوج بالفكرة الإسلامية، ولذا أوهموا الشعب في البداية أنها ثورة على السلطنة لا الخلافة، بمعنى نقل الخلافة من آل عثمان إلى الشعب المسلم، ولذا اعتقد كثير من المشاركين في تأسيس تركيا الحديثة، أنهم بصدد تأسيس دولة جمهورية إسلامية. لكن سرعان ما أدرك الشــعب أنها محاولة لاســتيراد العلمانية الفرنســية الإلحادية للحياة التركية، ووقتها أبدى شــيخ الإســام مصطفى صبري مخاوفه، محذرًا من افتتان الناس بهذا النظــام الجديد، وذلك لأن الصحف الموالية لعملية التغريب، جعلت إقصاء النظام الإسلامي عنوانا على التقدم.

نســتطيع القــول إن الكماليــن وحزب الشــعب الجمهــوري فرضوا العلمانية في الطبقات العليــا للمجتمع، وفي كبريات المدن التركية، لكنهم أخفقوا في صبغ الطبقات الريفيــة والفقيرة - التي تمثل الغالبية - بهذه الصبغــة العلمانية. وكما يقــول المفكر الراحل أنور الجنــدي، الخلافة ما أُســقطت بأســلوب الإقناع والتغيير النفســي والفكري، ولكن بأسلوب العنف والبطــش الذي قام به الاتحاديون والكماليــ­ون. وهذا فارق جلِيّ بــن المجتمعات التي تتعــرض للمد العلماني، فهناك مجتمع تتســلل إليه العلمانية عــن طريق الغزو الفكري، وغســل الأدمغة بصــورة تراكمية، تُحدث أثرا قويا في المجتمع، لدرجة أن تصبح شــرائح واسعة منه حاضنة للمفاهيم العلمانية وتُروج وتُمكّــن لها، أما المجتمع التركي فلم يصل تأثير الغزو الفكــري والثقافي إلى الحد الذي يجعل الشــعب مؤيــدا للمظاهر العلمانية وإلغاء النظام الإســامي، لذلك كان منع الأذان باللغة العربية، ومنع حجاب النســاء، وإلغاء المدارس الدينية، ليس له ظهير شعبي قوي يؤيده، وإنما جاء بأســلوب الفرض بالعسف والقوة. وربما انكشف عوار العلمانية وانفصالها عن عموم الشــعب التركي بعد بزوغ تيار الإســام السياســي، الذي أبعدته المؤسســة العســكرية الأتاتوركي­ة بالانقلابا­ت المسلحة، قفزًا على الإرادة الشعبية، التي لم يكن لديها حاجز نفسي تجاه قيادات ذات جذور إسلامية.

لذلك مــن الخطأ القول بأن العلمانية تمكّنت من فصل الأتراك عن دينهم بوجه عام، ولا ننكر قطعا تأثير العلمانية - التي فُرضت على الشــعب - في إضعاف القيم الإســامية، خاصة في طبقات المجتمع العليا، لكنه ليس بالأثر الذي يمكن معه وصف الشــعب التركي بأنه شــعب علماني. ويرى أوموت بارماكســي­ز الباحث في جامعة بريســتول، أن تركيا لم تكن يوما مجتمعا علمانيا تماما، ولم يسبق أن ســيطرت عليها الأفكار الإلحادية أو المادية، بل على النقيض، أصبحت تركيا تدريجيا أكثر تدينا خلال العقدين الأخيرين، وهي العملية التي بدأت بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002. ورغم صوابية هذه الملاحظة التي دوّنها الباحث، إلا أن ذلك لا يعني ارتباط تدين الشعب التركي بتوجهات القيادة ارتباطا طرديا، لأن الشعب كان ولا يزال يعرّف نفســه باعتباره شعبا مسلما مؤمنا، وقد أظهر اســتطلاع القيم العالميــة في تركيا قبل عامــن أن حوالي %96 من الشعب التركي يعرّفون أنفسهم على أنهم مسلمون أو مؤمنون. لكن مظاهر التدين كانت في تزايد مســتمر حتى قبل وصول الحزب إلى الحكم، حيث أظهر اســتطلاع القيم العالمية ارتفاع نسبة الأتراك الذين يعتقدون بأهمية الدين في الحياة بشــكل كبير في السنوات التي سبقت صعود الحزب إلى السلطة.

وتعتبر معركة الحجاب التــي ناضلت فيها حكومــة العدالة والتنمية ومؤيدوها ضد التيار العلماني، أبرز الميادين التي أظهرت انتصار إسلامية الشعب التركي على علمانيته، بعد أن كان رئيس الوزراء نفسه لا تستطيع ابنته دخول الجامعة بالحجاب.

لكنه نظرا لضعف الثقافة الإســامية بعد عقــود من تهميش دور العلم والعلماء، قد أوجدت العلمانية لنفســها موضعا في ما يختص بالنظر إلى القرآن، باعتباره مصدرا واجبا للدســتور والقوانين، وفي ما يتعلق كذلك بالسلوكيات العامة لدى الطبقات الأرستقراط­ية، كالفطر في نهار رمضان.

الحكومة التركية ذات الجذور الإســامية، لا تعبــأ كثيرا بالتوصيف، فربما طرحت نفســها باعتبارها علمانية محافظة منعا للاصطدام بدستور الدولة، الذي وُضع على أســس علمانية، لكنها في واقع الحياة تعمل على أســلمة الحياة في تركيا، بربطهــا بالتراث العثماني المرتكز أساســا على الفكرة الإسلامية، ذلك لأن الإســام يمثل الهوية الثقافية للشعب التركي، والعبث في تلك الهوية واســتبدال­ها بهوية تغريبيــة لا تتفق وثقافة ذلك الشعب، ســيكون عائقا أمام أي مشــروع نهضوي. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom