Al-Quds Al-Arabi

حتى لا تتحول باريس ومونتريال إلى عاصمة سياسية للجزائريين

- ناصر جابي* كاتب جزائري

تخبرنا اســتطلاعا­ت الــرأي الدوليــة، أن الجزائري يهاجر خارج بلده في الغالب الأعم لأسباب اقتصادية، وأن الهجرة لأسباب سياسية كانت على الدوام ضعيفة، منذ أن عرف الجزائريون الهجرة فــي بداية القرن الماضي، هجرة كانت إلى فرنســا في الغالب، قبل أن تتنوع اتجاهاتها في السنوات الأخيرة نحو بلدان جديدة عليهم مثل، بريطانيا ودول الخليــج ومنطقة الكيبــك بكندا، التــي تؤكد أهمية التفسير اللغوي والثقافي لعوامل الهجرة، المرتبطة باللغة الفرنسية.

بالطبع سوســيولوج­يا الهجرة تغيرت هي الأخرى مع الوقت، فلم يعد العامل البســيط مــن دون تأهيل، والأمي هما المعنيان بالهجــرة، كما كان معروفــا تاريخيا، بعد أن التحق بطوابير الهجرة المتعلــم وصاحب التأهيل العالي، هجرة أصبح يقوم بها زيادة على الشــاب، الكبير في السن كذلك، وهــو على أبواب التقاعد، كما هو حال المهاجرين إلى كنــدا، فلم تعد تقتصر على الشــباب، المرأة نفســها دخلت تجربة الهجرة بعد أن اكتشفت تأهيلها العالي الذي يؤهلها للنجاح أكثر من الرجل في أحيان كثيرة.

رغــم كل التصنيفــا­ت المعروفــة لأســباب الهجرة، من عوامل اقتصادية وسياســية وأخرى ثقافية، فإن التحليل الملموس المبني على قراءات اســتطلاعا­ت الرأي المنجزة في الجزائر، والملاحظة المباشــرة تقول لنا، إن الأســباب التي تؤدي بالجزائــر­ي والجزائرية إلى الهجــرة، لا يمكن عزل الاقتصادي عن السياســي داخلها، ولا حتى نوعية الحياة التي يتــوق اليها الجزائري، ولا يجدها في بلده كأســباب مركبة ليس من الســهل تصنيفها، فكيف نصنف على سبيل المثال ما يقوله هذا المواطن المرتاح ماليا، الذي يقرر الهجرة وهو في الستين من عمره، لأنه يريد تعليما أحسن لأبنائه،

ولأنه خائف على مصير بناتــه، إذا بقوا في هذا البلد الذي عاش فيه هو طول حياته ولم يعرف غيره. حتى إذا صدقنا التصنيفــا­ت، التي تقوم بها الدراســات الدولية لأســباب الهجرة، إلى اقتصادية وأخرى سياســية، فإننا سنكتشف بسرعة، أن السياسة فرضت نفسها على الجزائري المهاجر، ولم تترك له فرصة الاستمتاع بوضعه الاقتصادي الجديد، الــذي هاجر يبحث عنــه، كما كان الحــال تاريخيا في أول هجرة جماعية قام بها الجزائريون إلى فرنسا، بداية القرن الماضي، فقد حول هذا المهاجر باريس الفرنسية إلى عاصمة سياسية له، فكوّن الأحزاب السياسية المنادية بالاستقلال، والنقابات والجمعيــا­ت، كل هذا في عاصمة الفرنســيي­ن، باريس، التي منعته من أن تكــون له عاصمة مثل غيره من الشعوب، باريس المرشــحة للقيام بالدور السياسي نفسه هذه الأيام، إذا اســتمرت الأوضاع السياســية في الجزائر على ما هي عليه من انســداد سياســي، لنكون أمام قانون فــي غاية البســاطة، كلمــا زاد التضييق السياســي على الجزائريين داخل البلد، زادت إمكانيات تســييس الهجرة الجزائرية في الخارج، ليس في باريس فقط، بل مونتريال ولندن وغيرها مــن العواصم الغربية، التــي يتواجد فيها الجزائريون بكثافة، إذا اســتثنينا العواصم العربية، التي تبقى لإشعار آخر غير معنية بهذا القانون،

فقد اســتغل المهاجــرو­ن الجزائريون تحســن الوضع الصحي في فرنســا، ومجال الحريات الواسع، وما توفره وســائل الإعــام والوســائط الاجتماعيـ­ـة للتعبيــر عن ارتباطهم ببلدهم الأم، والعودة إلى مســيراتهم الأسبوعية التي كانت حاضرة بموازاة الحراك لأكثر من ســنة، ليتغير المشهد بعد تعليق المسيرات الشعبية داخل الجزائر، وتزايد حــدة التضييق علــى الحريات، في وضع صحــي أكثر من

صعب، ما يرشــح نشــاطات المهاجرين من التحول - كما كانت خلال ســنة الحراك ـ من عامل إسناد لما يحصل داخل البلــد، إلى عامل قيــادة للحراك السياســي الوطني ككل، بكل الســلبيات الكثيرة التي يمكن توقعهــا، والإيجابيا­ت القليلــة، إذا افترضنا أن هناك إيجابيــات لهذه الحالة غير الصحية من الناحية السياســية. على رأس هذه السلبيات كما ظهر بقوة في الأســابيع الأخيــرة، في باريس تحديدا، أن تتحــول مجموعــات سياســية صغيرة التعــداد إلى جماعات ضغط قوية، يمكن أن توجــه الحراك برمته نحو بوصلتهــا السياســية والفكرية الخاصة بهــا، تعلق الأمر ببعض المجموعات الصغيرة القريبة من التيار الإســامي، وبعض المنشــقين، أو التيار القريب من بعض الاطروحات المصنفة بالديمقراط­ية، القريبة من الأطروحات الأمازيغية، تيارات بنوعيها يمكن أن تســتفيد من جو الحريات في هذه العواصم الدولية، لكي تصل بأفكارها إلى حالتها القصوى، بدون أن تراعي بالضــرورة موازين القوى الداخلية، التي عبّر عنهــا الحراك داخل البلــد، ولا النضج الــذي ميّز كل التيارات السياسية والفكرية، وهي تراعي مصلحة الحراك كلحظة سياسية نوعية في حياة الجزائريين.

الأخطر مــن كل هذا، أن هــذه الفرديــات والمجموعات الصغيرة، يمكــن أن تعيــد النقاش السياســي في حراك باريــس، وحتــى مونتريــال جزئيا إلــى محطــة بداية التســعيني­ات ـ تاريخ هجرة الكثير منها إلى هذه البلدان - بحمولته الثقافوية والهوياتية الصفرية، التي تم التخلص منها في الجزائر، إذ بعد تجربة الحراك، تعرف الجزائريون على بعضهم بعضا، وتناقشــوا في قضاياهم السياســية والفكريــة، وتوصلوا إلــى قناعات مشــتركة تحولت إلى مطالب سياســية رفعها الحراك، بعــد أن ربح الجزائريون

أنفســهم وعلاقاتهم مع بعضهم، حتى إن فشلوا في تحقيق مطالبهم المؤجلة حتى الآن. حراك من مصلحة السلطة كذلك أن يبقى محركه الرئيسي في الجزائر وليس خارجها، فليس من مصلحة النظام السياســي الجزائــري الزيادة في حدة التضييق، وترك الانسداد السياســي حاضرا بهذه القوة، ما قد يؤدي بالكثير من الناشطين وحتى المواطنين العاديين الذين أقنعتهم ســنة من الحراك بربط مصيرهم الشخصي بمصير البلــد، التفكير في مغادرة البلد، والالتحاق بملايين الجزائريين في الخــارج، وهو ما عبر عن نفســه بتناقص الهجرة الســرية ـ الحرقة- خلال ســنة الحراك بالتفاؤل الذي غرســه في قلوب وعقول الجزائريين. هجرة إن تمت فعلا، ستكون لأسباب سياسية هذه المرة، وليس اقتصادية، كما ساد تاريخيا عند الجزائريين، بالطبع ليس من مصلحة دول الجوار على الضفة الشــمالية للمتوســط، على رأسها فرنســا، أن يتجسد هذا الســيناري­و، حتى إن كانت نوعية الهجرة المرشــحة، يمكــن أن تغري هذه البلــدان بتأهيلها العالي وقدرتها الكبيرة على الاندماج، في وقت تعيش فيه هــذه البلدان عجزا ديموغرافيا هائــا، كما بينت ذلك أزمة تفشــي وباء كورونا في هذه القارة العجوز، التي ستبقى في حاجة إلى ضخ طاقات شابة داخل جسمها الهرم، عكس الهجرات الجماعية على النمط السوري التي ستتحول إلى كارثة فعلية على هذه البلدان، مــا يجعلها دائمة المراقبة لما يحصل على المســتوى السياســي، عند جيرانها في الضفة الجنوبية، كما يؤكــد ذلك تطور الأحداث فــي ليبيا، الذي بدأت تلتقي عندها أكثر فأكثر مواقف الجزائر وفرنسا، بعد عودة نوع من الدفء للعلاقات بين البلدين.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom