تركيا ومفارقات تحويل «آيا صوفيا» إلى مسجد
■ أثار إقرار الرئيــس التركي رجب طيب اردوغان حكما قضائيــا بتحويل المعلــم التاريخي الكبير، آيــا صوفيا، إلى مــكان لعبادة المســلمين، ردود فعل سياســيّة ودينية عالميّة طغــى علــى معظمهــا الطابــع الرافــض للقــرار، وتراوحت تلك الــردود بين الهجــوم العنيف على اردوغان شــخصيّا، وعلــى تركيا عموما، وبين الإدانة والغضب وإبداء الأســف والحــزن، كمــا أدى الحــدث إلــى تأجيــج التوتر، الــذي لم يتوقف منــذ قرون، مع اليونــان وجهات سياســية ودينية غربيّة وعربية.
كانــت «آيــا صوفيــا»، كمــا هــو معــروف تاريخيــا، الكاتدرائية الأشــهر خــال حقبة الإمبراطوريــة البيزنطية، وتحوّلت بعد فتح القسطنطينية )التي صار اسمها منذ ذلك الحين الأســتانة ثم اســطنبول( عام 1543 على يد السلطان العثماني محمد الفاتح إلى مسجد إلى أن قرر الزعيم التركي الراحــل مصطفى كمــال أتاتــورك تحويلها عــام 1934 إلى متحــف، وبالتالي فقد شــهد المعلم التاريخــي عدّة تحوّلات تشــير إلى خلفيّات تاريخية لا تقتصر على قضايا السياسة والدين.
كان ســقوط القســطنطينية لحظــة فاصلــة فــي تاريخ العالم، تبدّى، لمئات الســنين، على شــكل صراع بين الممالك الإســامية والمســيحية، ورغــم تبــدّل المواقــع والتحالفات داخل المعسكرين المتحاربين على القسطنطينية نفسها حيث كانت والدة محمد الفاتح مســيحيّة، وكان بعض حلفائه من الجنويين مسيحيين، فإن الفتح اعتبر انتصارا لامبراطورية مسلمة بشكل أرعب العالم المسيحيّ، الذي قام بعد 51 عاما بانتزاع غرناطة، آخر الممالك الإســامية في شــبه الجزيرة الإيبيريــة )اســبانيا(، وطــرد المســلمين )واليهــود( منها، مسجّلا بدوره لحظة تاريخية فاصلة تبعها الفتح الأوروبي لقــارة أمريــكا الجديدة ونهب مصــادر الثــروة الهائلة فيها لتبدأ مرحلة صعود كبير لأوروبا )المســيحية( وانكســار لا ينتهي للعالم الإسلامي.
طرح اردوغــان القرار ضمــن صيغة دينية حيــث اعتبره «بدايــة جديدة للمســلمين في كافــة أنحاء العالــم من أجل الخروج مــن العصور المظلمــة»، ولكنّه اختــار لفتحه ذكرى سياسية وهي 24 تموز/يوليو اليوم الذي أقرّت فيه معاهدة 1923 التــي رســمت، بضغط مــن أوروبا، الحــدود الحاليّة لتركيــا، وتنازلت فيها عــن مطالبها بجزيــرة قبرص وجزر دوديكانيسيا، ومصر والســودان، والعراق وسوريا، وعن امتيازاتها في ليبيا، كما رسمت حدودها مع سوريا الحالية.
يســتند القرار إذن، رغم الســرديّة الخطابية الدينية التي وضعهــا فيه اردوغــان، والتــي انتقدها أعــداؤه باعتبارها شــعبوية ودعايــة انتخابيــة آنيّــة، إلــى خلفيّــة تاريخيّــة سياسيّة شــديدة الأهمّية ليس لاردوغان وحزبه، بل لمعنى تركيــا ضمن محيطهــا الإقليمــي، ودورهــا العالمــي، الذي نــرى آثارا واضحــة عليه فيمــا يحصل في ســوريا والبحر المتوســط وليبيا، وفي مواجهة قوى عنيفــة في مناهضتها للمشروع التركيّ، بدءا من اليونان، التي تعتبر نفسها وريثة الإمبراطوريــة البيزنطية، والتي لا يمكن للأتراك نســيان أن
جيوشــها وصلت خلال الحــرب العالمية الأولــى إلى أنقرة، وروســيا التي كانت موعودة بالقســطنطينية، وإســرائيل التــي تتحالف مع مصــر والإمارات لمنع امتــداد نفوذها في المنطقة.
تتعــدد اتجاهــات الرؤيــة إلى القــرار، حســب المصالح السياســية والاتجاهــات الأيديولوجية، ولكــن ذلك لا يمنع مــن ملاحظة المفارقــات الكبيــرة التي تحــوط المتخاصمين على المســألة، ومن ذلك أن اليونان تمنع إنشــاء أي مســجد للمســلمين علــى أراضيهــا، رغــم أن عددهم أكثر مــن ثلاثة ملايــن، وأن إســرائيل «العلمانيــة» تســعى لفــرض رؤية «الدولة اليهودية» على العالم، وأن اســبانيا حوّلت مســجد قرطبــة، وهو معلم تاريخي شــهير أيضا، إلى كنيســة، وأن الإمــارات وحلفاءهــا مشــغولة بقضايــا «التســامح» مــع الإسرائيليين الذين يهددون المسجد الأقصى.
باختصار: مطلوب من خصوم تركيا تقديم سياسات أخرى لشعوبهم وللمنطقة كي يكون لكلامهم مصداقية ومعنى.