Al-Quds Al-Arabi

نقاشات برلمانية بريطانية كشفت عمق أزمة البحرين

- ٭ كاتب بحريني

■ بعــد النقاشــات التي شــهدها البرلمــان البريطاني بغرفتيــه يومي الخميــس والجمعة الماضيــن، أصبح أمام الحكومــة البريطانيـ­ـة خيــارات صعبــة إزاء سياســتها الخارجية خصوصا بعد انسحابها من الاتحاد الاوروبي.

النقاشــات المذكورة، برغم ضيــق الدائرة التي تحركت ضمنها، تعكس توجهات لدى قطاع واســع مــن البرلمانيي­ن فرضتها الظروف العالمية وجائحة كورونا وتطور الســجال الأخلاقــي على الســاحة الحقوقيــة. النقاشــات المذكورة تحركــت نتيجة ضغوط مــن الجهات الحقوقيــة بعد اقرار إحدى محاكم البحرين حكم إعدام صدر ســابق بحق اثنين من مواطني ذلك البلد.

كافة المنظمات المعنية أكدت تعرضها لســوء المعاملة وأن الاحكام التي صــدرت كانت مبنية علــى اعترافات انتزعت تحت التعذيب. وقد بذلت حكومــة البحرين جهودا لإظهار القرار «قضائيــا» ولكن لم يقتنع احد بذلك، لأن الســلطات في البحرين ليســت منفصلة عن بعضها ولا يتمتع أي منها باســتقلال عن الاخرى. ولذلك تصاعدت الضغوط على ملك البحريــن للتراجع عن قــرار الاعدام الذي اعتبر سياســيا وليس قضائيــا. وأدت الضغــوط السياســية والإعلامية والحقوقية لفتح ملف حقوق الإنسان في هذا البلد الخليجي الصغير الــذي ما برح يعاني من اضطرابات سياســية منذ مائة عام عندما بدأت الانتفاضات ضد ما كان يســمى «نظام السخرة» الذي مارسه الحكام على المواطنين.

وطوال العقود السابقة نشــأت معارضة وطنية طالبت في بدايتهــا برحيــل الاســتعما­ر البريطاني ثــم تحولت للمطالبة بتحول ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان ويحافظ على ســيادة البلاد. وتحتوي وثائق الخارجية البريطانية معلومات واســعة عن أســاليب التعامل البريطاني مع تلك المعارضة. بل ان المستشــار البريطانــ­ي لحكومة البحرين، تشارلز بلغريف الذي شغل منصبه 31 عاما )1957-1926،) يقول في مذكراته أنه كان يتعامل مع المعتقلين السياســيي­ن بعد انتفاضة الخمسينيات بأساليب «ليست معتادة». وهذا التأكيد يشــبه ما قالــه الضابط الاســتعما­ري البريطاني، ايان هندرســون في العام 1964 لتفســير ســبب طرده من كينيــا التي واجه فيهــا انتفاضــة قبائل ماو مــاو واصفا المعاملة التي انتهجها معهم بأنها «لم تعقد مقبولة بمقاييس الحاضر ». وبعدها اســتقدمه المعتمد السياســي البريطاني لدى البحرين، أنتوني بارســون في 1966 ليؤسس «القسم الخاص » قبل رحيل القوات البريطانية من الخليج في 1971 .

تمثل نقاشــات البرلمان البريطاني بغرفتيه )مجلســي اللوردات والعمــوم( تصاعدا في الضغــوط على الحكومة البريطانية لتغيير سياساتها تجاه البحرين التي تميزت بما يلي: اولا الدعم المطلــق للحكومة وعدم التأرجح في الموقف تجاههــا في كل الظــروف، ثانيها: تقديم الدعم السياســي والأمني بدون حدود، ثالثها: حمايتها على المستوى الدولي ومنع صــدور قــرارات تنتقدها حتى في المجــال الحقوقي. رابعهــا: التصدي لكافــة التحديات التــي تواجه الحكومة هناك وكذلك معارضيها بأســاليب تهدف لتحجيم نشاطهم وتوفيــر درع واقية ضد تأثيرها. هذه السياســة الجديدة ـ القديمة كانت تعني عدم إمكان ممارسة ضغوط مباشرة على الحكم هناك. وقد تعرضت تلك السياسة للفحص والامتحان بعد ثورة 2011 التي شهدت تداعيا مروعا لحقوق الإنسان. التدخل البريطاني في هذه الحقبة اتخذ أشكالا عديدة وكان على مستويات ثلاثة: اولها ارسال فريق من دائرة الاشراف على السجون البريطانية للســيطرة على سجون البحرين المكتظة بالنزلاء. ثانيها: تشــكيل مؤسســات باسم حقوق الإنســان من اجل تحييد الجهات الدوليــة التي تنتقد الملف الحقوقي للنظام في البحرين، ومن هذه المؤسســات: مكتب التظلمات، والهيئة الوطنية لحقوق الإنســان ولجنة حقوق الإنسان بمجلس الشورى.

النقاشــات البرلمانية وكذلك التغطيات الإعلامية تعبير عن اضطراب سياســي في المؤسســة البريطانية. فمن جهة ثمة من يســعى لمواصلة السياسات الاســتعما­رية القديمة بهــدف اعادة وضع بريطانيا على الســاحة الدولية كلاعب أساســي، خصوصا بعــد خروجها من الاتحــاد الاوروبي. ومن اجل ذلك وسعت بريطانيا قدراتها العسكرية، وانفقت حوالي عشرة مليارات دولار لبناء حاملتي طائرات عملاقة وتحديث القوات الجوية بإضافــة أكثر من 100 من طائرات اف 35 الأمريكية.

ومن جهة اخرى تشــهد العلاقات بين ضفتي الاطلســي مرحلة اضطراب لأســباب عديدة من بينهــا الخلاف حول العلاقــات التجارية مــع الصين وتبادل اشــخاص ارتكبوا مخالفــات قانونية لدى كل من الطرفــن وما أحدثته موجة مناهضــة العنصريــة مــن انتقادات شــديدة لسياســات ترامــب، بالإضافة لبعض الاختلاف حــول الاتفاق النووي الإيراني. هذا الاضطراب لا يعني تغيرا سريعا في السياسة البريطانية تجاه الحكم في البحرين، بل يشــير الى ضغوط على تلك السياســة خصوصا مــع تنامي الوعــي الوطني الداخلي وتصاعد النقمة الشــعبية واخفاقات الحكومة في نمط تعاملها مع جائحة كورونا.

البريطانيو­ن أصبحوا أمام خيــارات صعبة. فالعلاقات التــي كان بوريس جونســون يحلــم بها مــع بعض دول الخليج كبديل للعلاقة مع اوروبــا اصبحت مكلفة، وقد عبر عن ذلك صدور موقفين متضادين الاســبوع الماضي. اولهما قرار استمرار تزويد الســعودية بالسلاح برغم وجود قرار قضائي صدر قبل بضعة شــهور يقضي بعدم قانونية ذلك، خصوصا مع اســتمرار العدوان الذي تقوده السعودية على اليمــن، ثانيهما: قرار الحكومــة البريطانية فرض عقوبات على عدد من عناصر الأمن الســعودي متهمين بالضلوع في قتل جمال خاشقجي.

وجــاءت مداولات مجلســي اللــوردات والعموم لتضع الحكومة البريطانية امام اســتحقاق سياسي واخلاقي. فقد اعتبرت المــداولا­ت محاكمة للحكم فــي البحرين، بالإضافة لمحاكمة السياسة البريطانية التي تدعمه. وبعد اعلان فرض العقوبات المذكور، صدرت مطالبات بتوسيع تلك العقوبات لتشــمل عناصر من اجهزة الأمن في البحرين ثبت ضلوعها في حــالات تعذيب حتى الموت، وممارســة تعذيب واســع النطاق. ومــا أكثر المقــالات التي انتقدت سياســات حزب المحافظــن ازاء البحرين خصوصا انفاق «اموال الضرائب » لتمويل برامج لم تنجح في تطويــر الأجهزة الأمنية المتهمة بانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان. وما البرنامج الوثائقي الذي بثته هيئة الاذاعة البريطانية، بي بي ســي، في شــهر ابريــل الا دليــل آخر علــى عدم فاعلية الدعم الامني البريطاني في مجال تطوير اداء الاجهزة الامنية البحرينية لتنســجم مــع المعايير الدولية لحقوق الإنسان. ذلك البرنامج وثق افادات قدمتها سجينتان سياسيتان أكدتا فيه تعرضهما للاعتداء الجنسي عندما كانتا رهن الاعتقال في الاعوام الثلاثة الاخيرة.

قبل ســتة اعوام أعلنــت بريطانيا قرارهــا العودة الى الشــرق الأوســط مجددا، وهو قــرار اســتراتيج­ي كبير، ولكن هــل ان ذلك امر ممكــن؟ ان بناء قاعــدة بحرية على نفقة البحرين لاســتقبال القــوات البحريــة البريطانية لا يكفي لتحقيق تلك العودة.. فذلك قرار سياســي عســكري اســتراتيج­ي، بالإضافة الى كونه قرارا نفســيا، فالشعور بالانشداد الى الماضي لا يكفي لتحوله الى مشروع نهضوي يعيــد أمجــاد الامبراطور­يــة ويدعم وجودها السياســي والعســكري في العالــم. فثمة قوى ناهضة فــي هذا العالم تمتلك قوة البناء الذاتي والتحــول الى قوة عظمى، كما هو الحال مــع اليابان والهند ولكن ذلك لا يكفي لبســط النفوذ وتوســيع الحضور على الســاحة الدوليــة. بريطانيا هنا تراهن على عوامل عديدة لم تكتمل بعد ولم تستطع توفير ما يبرر تلك العودة. ومن المؤكد ان جائحة كورونا التي ضربت العالم قد اظهرت عجز الساســة البريطانيي­ن عن تقديم مثال لإدارة الازمات. فقبل صعــود البرازيل في معدلات الاصابة والوفاة، كانــت بريطانيا الثانية على مســتوى العالم بعد الولايــات المتحدة من حيث الاصابــات والوفيات، وأصبح ذلك مثار انزعــاج كبير لدى الرأي العــام البريطاني الذي يشــعر بامتعاض من الخسائر البشــرية التي تكبدها منذ بداية الوباء الحالي. ضعف الأداء هذا من شانه ان ينعكس على ســمعة بريطانيا الدولية، خصوصا في منطقة الخليج التي تعاني هي الاخرى من تصاعد اعــداد الاصابة. وهكذا تبدو خيارات حكومة المحافظين محدودة، وربما الأفضل لها أن تعيد حساباتها وصياغة سياستها الخارجية لتكون أكثر إنسانية وأقل تجبرا وتعسفا.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom