Al-Quds Al-Arabi

إنهنّ يقتلن الرواية؟

-

القتيلــة المقصــودة فــي عنــوان هذا العمــود هــي الرواية الإنكليزيـ­ـة المعاصرة، في المملكة المتحــدة وإيرلندا على وجه التحديد، وليســت تلك المكتوبة باللغــة الإنكليزية هنا وهناك فــي العالــم. وأمّا مرتكــب فعــل القتل، هنــا، فهــو الروائية المــرأة بصفــة خاصــة، أو اللواتي يصــدرن روايــة أو اثنتين وســرعان ما يتصدّرن الصفحات المخصصــة لمراجعة الكتب فــي الدوريات الإنكليزية، فيتمّ تكريســهنّ كأســماء أوّلاً، ثمّ كأســاليب متميزة في تقنيات الســرد واللغــة والموضوعات وما إلى ذلك من عناصر الفــنّ الروائي. يبقى أنّ صاحب هذا الرأي هو كاتب بريطاني يوقّع باسم «مؤلّف سرّي» ويُعرّف هكــذا: «أســتاذ ســابق للإنكليزيـ­ـة والكتابــة الإبداعيــ­ة في جامعــة بريطانية رائدة»؛ وقد حملت مقالتــه العنوان التالي: «محاق الرواية الإنكليزية.»

وقبل اســتعراض النقاط المحورية في مساجلة صاحبنا، تجدر الإشارة إلى أنّ المادة نُشرت في مجلة «الناقد» الشهرية البريطانيـ­ـة الجديدة التي بدأت الصدور أواخر العام الماضي )يتوجب تمييزها عن دورية بريطانية أخرى بالاســم نفسه، صــدرت بــن 1843 وحتــى 1863( فكانت أحــدث منتوجات التيــار البريطانــ­ي المحافــظ فــي ميــدان الصحافــة الأدبيــة والثقافية. صاحبها هو جيريمي هوسكنز أحد كبار أساطين المال والأعمــال وفي عداد أبرز دعاة الـ»بريكســت»؛ ورئيس تحريرهــا هو مايكل موســبيكر، أحد المؤسســن الســابقين لمجلــة «ســتاندبوي­نت» المحافظــة المدافعــة عــن جوهرانيــة الثقافة الغربية؛ بالمشــارك­ة مع كريستوفر مونتغمري، الذي لا يقــلّ عن الممــوّل انحيازاً إلى عزلة بريطانيــا وإخراجها من إطــارات أوروبــا كافــة. ورغم زعم المجلــة أنهــا لا تنتمي إلى أيّ خطّ تحريري أو سياســي أو حزبي مســبق، وتستهدف تحريض القراء على كشف الضحالة والسطحية، فإنّ بيانها الافتتاحــ­ي لا يخفــي الصفة المحافظــة لتوجهاتهــ­ا أو يغفل مناهضتها للفكر التقدمي أو حتى الليبرالي.

ذلــك لأنّ تبيــان هويــة الدوريــة ضــروري لتبيــان المنــاخ التحريــري العــامّ الــذي يســود فيهــا، ويتيح بالتالي نشــر ســجالات مــن هــذا النــوع؛ بــدا وكأنّ التاريــخ الإنســاني الثقافــي، وذاك الإبداعــي تحديــداً، قد تجاوزهــا منذ عقود طويلــة، وباتت هــي الجديــرة بصفة الاضمحــال والمحاق. فالمعطيات التي يستند إليها المؤلف السرّي، في استخلاصه بــأنّ الرواية الإنكليزية المعاصرة تســير إلــى محاق، تبدأ من افتراض القصــور التقني لدى الكتّاب، وذلك بســبب يقينهم بأنّ التخرّج من قســم الكتابة الإبداعية فــي أية جامعة يمنح الكاتب رخصة مشــروعة بالتأليف والنشــر. الســبب الثاني هو «الخيلاء الهائلة» لدى المســؤولي­ن عــن صفحات مراجعة الكتب )ويسمّي صحيفة «الأوبزرفر»، وليس «ملحق التايمز الأدبي» مثلاً!( وكيف تســفر عن إقحام أســماء بعينها طبقاً لموضوعات مفضّلة وليس لأيّ اعتبار فنّي. ســبب ثالث، لعله الأعجب، هو أنّ الروايات المعاصرة لم تعد تؤمن بالله، بمعنى أنهــا أســقطت «القيــم الأخلاقية» وشــددت على «سياســة الهويــة» بــدل التوغّل فــي أعمــاق النفس البشــرية وتمثيل إنسان الطبقة المتوســطة في هواجسه ومعضلاته. والسبب الأخير هو أنّ العالم يمكن أن يشهد شيوع قضية ما، سياسية أو اجتماعيــة أو ثقافيــة، تجذب انتباه الناشــرين وتتســلل استطراداً إلى نصوص الرواية من باب مزاحمة الرائج.

وكان يمكــن لجميع هــذه النقاط أن تحظــى بالنقاش لدى مَــنْ يرغب، ســواء في قبولهــا أو رفضها، تثمينــاً أو تفنيداً، وعلى ســبيل الجدل النقدي الثقافي أو الأدبي أو السياســي أو الأيدويولو­جي؛ لولا أنّ مؤلفنا السرّي يذهب بالمسألة إلى منطقــة عجيبة يصعب أن تتيح هوامش مقبولة للســجال، أو لعلهــا تعلّق مســوّغات الحــدّ الأدنى للمطارحة وتســدّ آفاق الاســتنتا­ج، وذلــك حين يحصــر صاحبنا فعل قتــل الرواية الإنكليزية في الروائية المرأة، ممثلاً عليهنّ باثنتين: البريطانية زادي سميث، صاحبة «سنّ بيضاء» 2000 والإيرلندي­ة سالي رونــي، صاحبة «حــوارات مع أصدقــاء»، 2017. في المقابل، تنحصــر جميع أمثلته المضادة، عن كيفية كتابة رواية أصيلة وجديــرة بالحيــاة، في روائيين رجــال أمثل هنــري فيلدنغ، جورج غيســنغ، مارتن إميس، أو وليــام بويد؛ حيث «يتلاقى المرء مباشــرة مع مجموعة شــخصيات تضطــرب حيواتهم الداخليــة بفعل أســئلة جوهرية حــول ســلوكهم الأخلاقي والروحي !»

ولقد ســبقت لــي، في هــذا العمود، الإشــارة إلــى حكاية الروائية الســكتلند­ية غايل هونيمــون، وروايتها الأولى «كل شــيء على ما يــرام عنــد إليانــور أوليفانت»، التــي صدرت في ســنة 2018، ففازت علــى الفور بجائزة العمــل الأوّل في بريطانيا، ثمّ واصلت تصدّر لوائــح الكتب الأكثر مبيعاً حتى بلغت، في إحصاء نهايات ذلك العام، رقم الـ806,460 نسخة. كانــت أســباب النجــاح تنطــوي على علــم اجتماع الســرد، وعلم نفس القراءة، والاقتصاد السياســي للكتاب المعاصر؛ ولكنهــا كانت تبدأ من فــنّ الرواية ذاته، وشــخصية إليانور ابنة الثلاثــن، الموظفة المنعزلة التــي لا تتواصل مع زملائها، ولا تغــادر بيتهــا في عطلة نهاية الأســبوع، ولا تجيد ســداد قيمة البيتزا عن طريق بطاقة الائتمان، ولم تســمع بشــطيرة الماكدونال­ــد، وتقــرأ صحيفة «دايلي تلغــراف» لأنها تحتوي على أفضل كلمات متقاطعة بين الصحف...

ولــم تحقــق الروايــة نجاحــاً عالميــاً مذهــاً، فتُترجم إلى 30 لغــة، لأنّ إليانــور كانــت تعانــي مآزق روحيــة وأخلاقية ذات صلــة بالإيمــان أو انعدامه؛ بل، أغلب الظــنّ، لأنها مثّلت مســتوى أقصى من أنساق العزلة البشرية المعاصرة، المادية والاقتصادي­ــة الاجتماعية في المقــام الأوّل. وأمثالها، بقلم صانعتهــا هونيمون، هنّ جزء من معــادلات ازدهار - وليس البتــة محاق - النوع الروائي؛ بأقلام النســاء والرجال، على حدّ سواء.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom