Al-Quds Al-Arabi

عالم عربي محتل حقيقة ومجازا

- * محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي

مهزلة الزمــان أن نحاول الرد على تطبيع البحرين أو الإمارات، ونسوق الحجج لإثبات خطأ تصرفاتهما، وكأن هذه الدول كاملة الســيادة على الأرض والشــعب، وتمتلك قرارها بيدها، بدون تدخل خارجي أو تأثير من دول أخرى. كيف يمكن أن تكون البحرين مستقلة، أو دول الخليج بشكل عام، وهي التي تحتضــن القواعد الأمريكيــ­ة، في مقايضة اســتراتيج­ية «النفط مقابل الأمن» منــذ زمن عبد العزيز آل سعود، مؤســس المملكة السعودية؟ هل من المنطق أن تكون دولة تشتري أمنها من الخارج، ثم تحاول أن تتصرف وكأنها دولة عادية ذات ســيادة تقبل وترفض وتحتج وتنسحب. الأمــر ليس مقصورا علــى البحرين والإمــارا­ت، فالغالبية الســاحقة من الأنظمة العربية غير كاملة السيادة، إما على أراضيها، أو على قراراتها الســيادية أو على الاثنين معا، أو أنها تمرّ حاليا فــي حرب داخلية، أفقدتهــا مكونات الدولة المســتقلة ذات الســيادة بأجمعها. ولا أكاد أستثني إلا دولة أو دولتين.

مخطئ من يعتقد أن فلســطين فقط هــي الأرض المحتلة، مع أنها أكبر الاحتلالات وأشرســها وأخطرهــا. فالاحتلال التقليــدي يكاد ينتهي من كل العالــم، إلا من العالم العربي. ولنتتبع معــا الأراضي العربية المحتلة، أو المتنازع عليها، ثم نســتعرض بعضا من المواقف والقرارات التي تثبت بلا شك أن معظم هذه أنظمة وظيفية لا تملك من ســيادتها الحقيقية إلا المظاهر.

- نبــدأ بالمغــرب الذي فقد جــزءا من أراضيــه ومدنه للاحتلال الإســباني، منذ القرنين الســادس عشر والسابع عشــر. المدينتان الأهم ســبتة ومليلية، ومــا بينهما أضف إلــى ذلك أكثر من عشــرين جزيرة، إذا مــا اعتبرنا «الجزر الخالدات» أو جــزر الكناري التــي احتلتها إســبانيا عام 1405. مدينــة مليلية احتلت عــام 1497 لمنع هجمات العرب على المناطق الإســباني­ة بعد ســقوط غرناطة عــام 1492. وفي المدينة الآن قاعدة عســكرية كبيرة تهدد الأمن المغربي. أما مدينة سبتة فاحتلتها إسبانيا ســنة 1668 وفيها قاعدة عســكرية أكبر من تلك التي في مليلية. والغريب أن المغرب لا يرفع صوته حول احتلال هــذه المناطق ولا يذكره، إلا في نصف ســطر في خطاب وزير الخارجية السنوي أمام دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، ثم يسهب في موضوع وحدة الأراضي المغربية، في إشــارة لأهمية الاعتراف بالصحراء الغربية على أنها صحراء مغربية.

- الأرض الســورية المحتلــة لا تقتصــر علــى هضبــة الجولان، التي احتلتها إســرائيل عام 1967 وضمتها رسميا عام 1981، واعترف بهــا الرئيس الأمريكي في مارس 2019، بطريقة رعناء بأنها أرض إســرائيلي­ة. فهناك أراض سورية واقعة تحت الاحتــال الأمريكي، الذي أخلــى 16 نقطة من أجل عملية «نبع الســام» التركية، لكنه ما زال يسيطر على مناطق النفط في الحسكة ودير الزور. وهناك مناطق أخرى تحــت الاحتلال التركي، من بينها مدن مهمة مثل عفرين وتل أبيــض وجرابلس وراس العــن وغيرها. وهنــاك مناطق يسيطر عليها الأكراد، من جماعة قوات سوريا الديمقراطي­ة، التي أنشــأتها الولايات المتحدة لمحاربة «داعش» مثل مدن منبــج والعريمة، ومناطــق أخرى تحت ســيطرة وحدات حماية الشعب الكردية، ناهيك من منطقة إدلب التي تسيطر عليهــا جماعات المعارضــة، خاصة جبهة النصــرة. أما من الناحية السيادية فسوريا لا تســيطر على القرار السيادي الذي انتقل إلى الاتحاد الروســي، كصانع أساســي للوضع الحالــي، إضافة إلى إيــران. ولا غرابة فــي أن المفاوضات السياسية حول كل ما يتعلق بسوريا تدور بين أضلاع المثلث الروسي الإيراني التركي.

- لبنان وضعــه يثير الشــفقة فعلا، خاصــة أنه البلد الذي كان من المفــروض أن يكون النمــوذج الآخر لمنظومة الاســتبدا­د العربي، إلا أنه تحول إلى استبداد طائفي، وكل طائفة مرتبطة بمحور سياسي خارج البلاد. فعدا عن القرى اللبنانية الســبع التي اقتطعها الفرنســيو­ن والإنكليز عام 1923 وضموها إلى فلسطين الواقعة تحت الانتداب، وهجّروا أهلها، فما زالت مناطق لبنانية تحت الاحتلال الإســرائي­لي الفعلي مثل تلال كفر شــوبا وشــمال قريــة الغجر ومزارع شــبعا. أما عن ســيادة لبنان فالحديث عنها يوجع القلب، حيث مرت 30 ســنة ‪2006( )-1976‬ لا يعين فيها مسؤول إلا بمرسوم سوري من غازي كنعان. الدول الإقليمية المؤثرة ما زالت تلعب أوراقها في لبنان، لدرجة أغاظت فرنسا، خاصة بعد انفجار الميناء المروع يوم 4 أغسطس، حيث زار الرئيس الفرنســي ماكرون بيروت مرتين، وأمرهم أن يشكلوا وزارة عيية على الفساد.

- دولة الإمارات المتحدة، بدل أن تسعى لتحرير جزرها المحتلــة، طنب الصغرى وطنــب الكبرى وأبوموســى منذ 1971 على يدي شاه إيران، قررت أن تحتل جزيرة سقطرى اليمنيــة، وتدخل حلفاءها الجدد من بنــي صهيون لتراقب مداخل باب المندب. كما قررت أن تبني جيشــا من المرتزقة،

لتقسم اليمن وتســيطر على جنوبه وتقيم فيها الميليشيات والســجون ومراكــز التعذيب. والإمارات التــي تحاول أن تلعب دور نمر بجسم قط، تسلم ســيادتها الآن طوعا لبني صهيون وتتتخلى عن العروبة وفلسطين والمسجد الأقصى. وللتذكيــر فقط قامت حليفتها يوم 19 يناير 2010 بإرســال 31 عميلا إلى قلب مدينة دبي بجــوازات أوروبية، ودخلوا بكل خفة ومهــارة وتوزعوا في عدة فنادق بمــا فيها فندق البســتان- روتانا، الذي كان يقيم فيــه محمود المبحوح، أحد قياديــي حماس، وهاجمت المجموعــة غرفته رقم 230. وبعد تخديره تم صعقه بالكهرباء وخنقه في غرفة نومه. ثم عاد الجميع وخرجوا من البلاد بمهارة الدخول نفسها. مثل هذا الاختراق الأمني الخطير وغير المســبوق، قد يطيح بكل طواقم الأمن والشــرطة والمخابرات بكل فروعها ورؤسائها ووزرائها، في أي دولة تحترم نفسها وسيادتها.

- السودان الذي يحاول أن يتخطى سنوات المخلوع عمر البشــير الثقيلة والطويلة، إلا أن الأمر ليس بتلك السهولة. فقد ســلم البشير منابع النفط لجنوب السودان، من أجل أن يعاد تأهيله أمريكيا، ويحذف من قوائم الإرهاب. مدينة أبيي الغنية بالنفط ما زالت غير خاضعة للســيادة الســوداني­ة. جنوب السودان حصل على نصيب الأسد من حقول النفط، حتى أبيي لم يســتطع البشير أن يحتفظ بها. وبدل أن يركز نظام حمدوك-البرهان على حل مشــكلة أبيي، راح يتوعد باســتعادة منطقة حلايب من مصر، ويتجــه للجلوس في حضن إسرائيل بناء على ضغوط وإغراءات دولة الإمارات، الوكيــل الحصري للوبيات الصهيونية فــي العالم العربي. ويجب أن أذكر الثنائي الحاكم أن إسرائيل صفعت السودان مرارا خلال حكم البشــير. ففي يــوم 24 أكتوبر 2012 قامت أربع طائرات إسرائيلية بقصف مصنع «اليرموك» للذخيرة جنوب مدينــة الخرطوم. وفــي يناير عــام 2009 هاجمت إسرائيل قافلة عسكرية قرب بور سودان محملة بالذخائر، قيل إنها متجهة إلى غزة لإيصال مساعدات عسكرية لحركة حماس، أدت إلى استشــهاد أكثر من 40 شــخصا. ويبدو أن الطبقة الحاكمة الآن ســلمت ســيادتها لمحمد بن زايد لعله الجســر الوحيد الذي يضمــن العبور من خلالــه إلى قلب واشنطن عبورا بتل أبيب.

- أما مصر فلا أريد أن أنكأ جراح سيناء الناقصة السيادة منذ كامب ديفيد. ولكنــي أذكر أن الخطر على مصر ليس من تركيا، كما يحلو لبوق النظام أحمد أبو الغيط أن يصرح، بل من إثيوبيا التي ســتحول 68 من الأرض الزراعية المصرية

إلى أرض يباب، بعد اكتمال تعبئة بحيرة ســد النهضة التي تعادل عشرة أضعاف بحيرة ناصر الرافدة للسد العالي. أما عن سيادة مصر فتخضع الآن لتجاذبات إسرائيلية إماراتية. وليس أبلغ من هذا الالتحاق بسياســة الإمارات من فشــل جامعة أبو الغيط في إصــدار بيان يرفض التطبيع ويدينه. وســأذكر مثلين إضافيين، فعند وفاة الرئيس حسني مبارك صدر بيان عــادي جدا حول الوفاة، إلــى أن رن هاتف عبد الفتاح السيســي وكان المتصل محمد بن زايد. تغير الموقف بعــد الهاتف، فأقيمت له جنازة عســكرية حضرها الرئيس عبد الفتاح السيسي بنفسه على رأس مسؤولي الدولة، وتم إعلان الحداد لمدة 3 أيام في البلاد. كما ألغت الإمارات مؤتمرا في القاهرة للمعارضة الوطنية اليمنية في الجنوب الداعمة للشــرعية في مارس 2019 في اللحظة الأخيرة، بعد وصول المدعوين كافة، بعد أن رن هاتف السيسي. هذا هو وضع «أم الدنيا » الخاضعة للرز الإماراتي.

ولا أعتقــد أننــا بحاجة للحديــث عن أوضــاع العراق وســيادته الموزعة بين الولايات المتحــدة وإيران، أو اليمن والحــروب بالوكالــة، أو ليبيــا والمناطحة بــن الإمارات وروسيا وفرنسامن جهة وتركيا من جهة أخرى.

هناك بلَــدان فقط يمكننا أن نغض الطــرف عن كثير من مثالبهما، ونقول إن تونس تحاول أن تصبح ســيدة قرارها بصعوبــة بالغــة. فالرئيس قيس ســعيد تتجاذبه تيارات عديدة وتهديــدات منوعة، فقد ضحى بســفيرين في الأمم المتحدة، لأســباب تتعلق بموضوع غضب بعض الحلفاء، أو رضى أطراف أخرى. والأموال التي تصب في البلاد، خاصة من الإمــارات تكاد تطيح بالتجربــة الديمقراطي­ة الوحيدة. أما البلد الأخير الذي يتمتع بشــيء من الســيادة المستقرة فهو الجزائر. لكن ساســة الجزائر الذين يواجهون تحديات داخلية، آثروا أن ينسحبوا من ميدان مواجهة مشاكل العالم العربــي، ويختبئوا في الظــل إلى أن يتــم ترتيب الوضع الداخلي في ظل الحراك الجماهيري.

في ظل هذا الوضع ليس أمام الفلسطينيي­ن إلا العودة إلى الــذات والارتباط بالجماهير العربية التــي أهملوها كثيرا، مفضلــن العلاقة مع مثل هذا النظــام العربي البائس الذي يفتقد للسيادة الحقيقية في المعنى والمبنى.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom