Al-Quds Al-Arabi

في مفارقات السلام العربي ـ الإسرائيلي وتناقضاته

-

فكرة الســام مع )إســرائيل( في جوهرها غير مســتدامة، وربما يكون ما تطرحــه حركة حماس من الحديث عن هدنة طويلة الأمد، مع ما يحمله من مراهقة سياســية، يصلح لتوصيف أي ســام مع إســرائيل، ذلــك أن وقائع قانونيةً وأخلاقيةً وســكانيةً تحول دون الشرعنة الكاملة للوجود الإسرائيلي بنســخته الحالية، والأحرى، واقعياً أن تشــتمل اتفاقيات الســام مع إســرائيل علــى تاريخ صلاحية، لأنها وإن تناسبت مع افتراضات متعلقة بالوضع الراهن، ستحمل تناقضاً هائلاً في المستقبل.

قبل المضي في نقد الســام مع إسرائيل، يجب الإشارة إلى أن المسألة ليســت مطروحة للمزاودة، فاتفاقية أوسلو 1993 حملــت داخلها خطيئة اســتراتيج­ية مريعة، تمثلت في فصل القضية الفلسطينية عن سياقها العربي، وأحياناً عن سياقها الفلســطين­ي الأوسع، المتمثل في كتلة اللاجئين الكبيرة، ويوجد بعض الرؤســاء العرب، الذين استيقظوا على أخبار الاتفاقية مثل أي فلســطيني وجد نفســه أمام اتفاقية ســام، لم يكن طرفاً فاعلاً فيها، ولم يتم استقصاء رأيه بخصوصها، ومــن مصلحة إســرائيل أن تتعامل مع الدول العربية بالتجزئــة لا الجملة، لأن ذلك يجعلها دولة بــن دول أخرى، وليســت كياناً يقع داخــل محيط عربي أوســع، وهــذه النقطة تتيــح لإســرائيل أن تحصل على الأفضل من علاقاتها مــع كل دولة منفردة، وأن تخلق حالة

من التوتر الإضافــي بين الدول العربية. كــم كانت عبارة «سلام عادل وشــامل » تنضح بالرومانسي­ة واللامعقول­ية، منذ اللحظة الأولى، فإســرائيل لا تبحث عن ســام عادل من الأســاس، لأنها تقــوم على فكرة غيــر عادلة من حيث المبدأ، فالفلســطي­نيون يدفعون ثمن حل المسألة اليهودية، التي تفجرت في أوروبا، والعرب بشــكل عام يســتقبلون رأس الحربة التي أنتجته كواليس التفاهمات الصهيونية ـ الاســتعما­رية، أما مسألة الشامل فتحتوي على مستويين مــن التناقض، الأول، هــو في تباين مصالحهــا مع الدول العربية، ورغبتها أو عدم رغبتها في عقد السلام ومستوى الســام مع كل دولــة، والثاني، هو الافتــراق بين النخب الحاكمة والشــعوب، وذلك هو ما يجعل أي سلام منقوصاً ومهدداً وخطيراً كذلك.

السلام الجديد غير منشغل بفكرتي العدالة والشمولية، ولكنه يســتند إلى منظور براغماتي يقوم على وضع المال الخليجي بمحــاذاة التكنولوجي­ا الإســرائي­لية والعمالة العربية، خاصة المصرية المتوفرة بســعر معقول، من أجل صناعــة نمــوذج اقتصادي، ويبــدو الســام مختلاً منذ اللحظة الأولى، لأنه يعطي لإســرائيل تفوقــاً مجانياً، أي يمنحهــا ما ينقصها، ويجعلها لا تفــرط أيضاً في ما تملكه، وهو التكنولوجي­ا، فهذا الركن تحديــداً غير قابل للتعميم بالطريقة نفسها التي تحدث مع المال والعمل، فالتكنولوج­يا هي ثمرة لمســيرة حضارية، والإسرائيل­يون حصلوا عليها

من أوروبا والولايات المتحدة، ســواء مــن خلال عقولهم التي شــاركت جوهرياً في إنتاج التكنولوجي­ا، أم من خلال توافقهم بوصفهم رأس الحربة، التي تركها الاســتعما­ر في قلب العالم القــديم، وهو بالمناســب­ة، جغرافياً على الأقل، قلب العالم الجديد أيضاً. توجد قصة سياســية ربما تكون غيــر صحيحة، أو تفتقــر لكثير من الدقــة، ولكنها معبرة عن المبدأ الضعيــف للتعاون، وتــدور القصة حول توجه الرئيس الليبي الســابق معمر القذافي إلى الصين لشــراء قنبلــة نوويــة، والرد الصينــي أن مثل هــذه الأمور غير قابلة للبيع، لأنها تمثل تعبيــراً عن رحلة الصين في العمل والتطويــر والتكنولوج­يا، ولو أصبحــت موضوعاً للبيع والشــراء لانتهت سطوتها بوصفها الســاح الذي تمتلكه الــدول المتقدمــة، وتســتطيع أن تحافظ مــن خلاله على التفوق، والأمر نفســه بالنسبة للتكنولوجي­ا الإسرائيلي­ة، التي ســتتدخل في التطبيقات المختلفة من وقت إلى آخر، ولكنهــا لن تنتقل مطلقاً، ومن يريــد التكنولوجي­ا عليه أن يصعد الجبل، لا أن ينتظر السماء لتمطر عليه الحلول.

إســرائيل لا تحتاج السلام، فالسلام يفكك مجتمعها من الداخل، يجعله يفقد فكرة الاســتجاب­ة للتحديات المتمثلة في التهديد الدائم، وكل مــا تحتاجه هو الأمن الذي يمكنها من النمو، والســام المنعقد مع دول لا تشــكل تهديداً أمنياً لإســرائيل، لا يشــكل وزناً كبيراً لديهــا، ولكنه فرصة من أجل التوســع، من خلال تزويدها بما تحتاجه، والتجارب الســابقة في الســام مع إســرائيل تؤكد على مدى قدرة الإســرائي­ليين على تجاوز أي اتفاقية واستغلالها بصورة أنانية بالكامل، لأنها ببســاطة لم تعقد أي اتفاقات ســام بالمعنى الحقيقي، وكل ما يســتقر في مخيلتها السياســية هو ترتيبات أمنية، وطالما أن السلام لا يمكن أن يتحول في حالة الإخلال بقواعده إلى حرب فهو ليس ســاماً على أي حال، هو مجرد ترتيبات للتعايش. لم تكن مبادرة الســام العربية يوماً تمثل طموحاً مرضياً لأي من الشعوب العربية، ولكنها بقيت في النهاية خطوة للمحافظة على الحد الأدنى من الحقوق الفلســطين­ية، والإبقاء على ما يسمى بالقضية الفلســطين­ية، ومقاربة الجانب الحقوقــي والأخلاقي من خــال ذلك، ومــع الاتفاقيــ­ات المنفــردة وترتيباتها التي تقع ضمن اختصــاص كل بلد، وهو بالمناســب­ة ما لا يمكن مصادرته علــى أي طرف، فإن الفعل الإســرائي­لي يصبح مبــادراً بالكامــل، ويتمكن مــن وضع شــروطه في المدى القصير والبعيد، ولذلك فالذهاب إلى السلام بهذه الطريقة المتعجلة يمكن أن يكون وصفة لنتائج ســلبية للغاية، لأنه يعقد السلام ويقدمه بوصفه غاية في حد ذاته، ويجعل أي خلاف على التفاصيل بعد ذلك مستبعداً، لأنه يعني انقلاباً على السلام، ولا أحد يســتطيع أن ينقلب على السلام، إلا إذا كان مســتعداً للحرب، وهذه هي المشــكلة في التوقيت والملابسات.

* كاتب أردني

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom