Al-Quds Al-Arabi

التحولات الصادمة في رواية «دفاتر الورّاق» للأردني جلال برجس

- ٭ كاتب أردني

في روايته الرابعة «دفاتر الورّاق» الصادرة حديثا عن المؤسســة العربية للدراسات والنشر، يواصل الشاعر والروائي الأردني جلال برجس مشروعه الروائي، الذي يسير بخطى حثيثة، وتنوع مدهش، ومستوى عالٍ من الإبداع والتميز، والمضمون الثــري العميق، وليس من المبالغة القــول؛ إنها الرواية الأكثر التصاقا بالهامش وقاع المدينة ونبض الناس.

تتنــاول الرواية فــي 366 صفحة التحــولات الاجتماعيـ­ـة والاقتصادي­ة والسياســي­ة وغيرها، على مدار أربعــة أجيال، خلال ســبعين عاما تقريبا، متنقلــة في كل من مدينة مادبا وقراها، والعاصمة عمّان، والعقبة وموســكو؛ حيث ابتدأت الحكاية منذ 1947 في إحدى المناطق الرعوية شرق مادبا، حيث الفقر والجوع والجفاف، وتحكم الإقطاعيــ­ن، وغياب الحكومة الكلي، يقابله توتر للأوضاع في فلســطين، ومــا تلاه من ضياعها علــى دفعتين، وما ترتب على ذلك من ســقوط شــهداء وموجات هجرة، ومشــكلات على كل الصعد. وتتواصل أحداث الرواية حتى ســنوات قليلة مضت، وما طرأ على عمّان من تحولات أفقية ورأسية، وتمدد الطبقات الهامشية، التي نهشتها أنياب الجشع والفساد، بالتواطؤ مع الجهات الرســمية، التي مهدت لها السبيل، وذللت لها الصعاب، وأطلقت أيديها تعيث فسادا وافتراسا ووحشية.

الرواية زاخرة بالأحداث، غنية بالتفاصيل، مليئة بالرسائل والترميزات، مثيرة للدهشة، ولكن سأكتفي بإيراد بعض الأفكار والملاحظات العامة؛ حتى لا نحرق الرواية للقارئ، ونفسد عليه متعته، وسبر أغوارها بنفسه.

رصدت الرواية مشكلات ومعاناة الطبقة الفقيرة في المجتمع، التي تعيش على الهامــش، تحت رحمة رأس المال المتحالف مع الســلطة، كما أنها تناولت فئة اللقطاء، وأبناء الحــرام، هذه الفئة المنبوذة اجتماعيا، المهملة رســميا، التي تخرج من دور الأيتام إلى الشارع؛ لتواجه مصيرها ضياعا وتيها وانحرافا لا بد منه، ولعــل «دفاتر الــورّاق» هي الرواية الأولى أردنيا ـ حســب علميالتي تناولــت هذه الفئــة التي تعيش في القاع، بعيدا عــن الحياة ومقوماتها الأساسية، مع أنها فئة مظلومة، ضحية، تتحمل ظلما ذنب غيرها، وتُحرم من حقوقها الإنسانية، في العيش بكرامة واستقرار واحترام.

أبدع برجس في رســم شــخصية «إبراهيم» هذه الشــخصية التي كانت سجينة أوامر وتعليمات الأب، ومن ثم سجينة الكتب وعوالمها، ويكاد لا يعرف شــيئا خارج بيته ومكتبته، وفجأة تحول إلى شــخصية، بل إلى شخصيات مختلفة؛ من شخصية خاملة إلى شخصية فاعلة مؤثرة، ومن شخصية مسالمة إلى شخصية قلقة مجرمة، وأصبح حديث الناس والإعلام. فما الذي أدى إلى هذه التغير الصادم؟ أهو الظلم، أم القمع، أم الحرمان، أم القهر، أم الفساد؟ أم غير ذلك، أم كل ذلك؟

كما إن «إبراهيم» الذي أدمن قراءة الروايــات، وتميز بقدرته الفائقة على تمثل وتقليد شخوصها بشــكل مذهل، وظّف هذه الشخصيات قلبا وقالبا في أفعاله وحركاته ونشــاطاته الإجرامية، أو لغايات خداع الناس خلف أقنعتها وملابسها وتصرفاتها؛ فالناظر أو المتابع كان لا يرى «إبراهيم الورّاق» بل كان يرى «أحمد عبدالجواد» أو «دكتور زيفاكو» أو «الأحدب كوازيمودو» وغيرها من الشــخصيات الروائية المشــهورة، وهذه إضافة إبداعية تُســجل لجلال برجس.

برز صوت التطــرف والجهل مؤثــرا وفاعلا في هذه الروايــة، وأدى إلى نتيجة عكســية وتمرد، بعد أن اختفى أصحابه، وسيبقى التطرف والإقصاء والتعصــب عوامل مؤثرة، مــا دام الجهل موجودا، والوعــي غائبا أو مغيبا، والنعرات المختلفة تغذيها أيدٍ خفية، في غياب واضح للحريات، واستشــراء الظلم والفســاد، وتواري صــوت العقل والحكمة، واختفاء ثقافة التســامح وتقبل الآخر.

أظهرت الرواية تعطش الناس البسطاء إلى بطل شعبي يمثلهم، ويــرون فيه المنقذ، أو المنتقم الذي يشــفي غليلهم من الطبقة المخملية، ومن الفاســدين ومن الجشعين، حتى ولــو كان بطرق غيــر قانونية، المهم أن يكــون في صفهم، وضد مــن يمتطون ظهورهم؛ لأنهم يشــعرون بأنه يقتص لهــم، ويذيق هــؤلاء ما يســتحقون. وربما جــاء تعطش الناس للبطل الشــعبي لافتقادهم لأي مظهــر للبطولة في حياتهم، فلا يرون إلا اللصوص والظلمة ومصاصي الدماء، وقناصي الفرص، ولذا فأي بطل يخرجهم من حالة اليأس والظلام والتهميش، فهو بطل عظيم، ورمز كبير، ولذا كان لهــم «إبراهيم» «روبن هود» البطل الخــارق، الذي أصبح حديث الناس والمجالس والصحــف والمحطات الفضائية، وقد وظفت الرواية حوادث ســرقة البنوك، التي بدأت قبل سنوات قليلة في الأردن، ولم تكن معروفة من قبل، ما أشعر النــاس بالفرح والتشــفي؛ لأن معظــم المواطنين مدينون للبنوك، وتقبــض على رقابهم وتقــض مضاجعهم وتقلق حياتهم.

ككل روايات جلال برجس الســابقة، بــرز المكان جليا واضحا في هذه الرواية، ليس كفضاء للأحداث وحســب، بل باعتباره شــخصية مؤثــرة وفاعلة أيضــا، ودلالاته الرمزيــة، فمــن «حنينــا» إحــدى ضواحي مادبا، وبيت «الشموســي» الذي أوشــك أن يفقده، إلــى بيت «إبراهيم» في جبل الجوفة، ووسط البلد، وكشك الورّاق، وجبل اللويبدة، والمطعم، وجسر عبدون وجبل عمّان، والبيت المهجور وغيرهــا، كلها أماكن حية متحركة كان لها دورها المهم فــي الرواية، وهنا تظهر حنكة الكاتــب؛ إذ أن أي حذف لأي منها يخلق فجوة واضحة في بنية الرواية وتدفق الســرد. حضور المرأة كان بارزا ومتوازنا في هذه الرواية، خاصة من خلال شــخصيتي «ليلى» و«ناردا» اللتين لعبتا دورا كبيرا ومفصليا في الأحداث، وكان لهما الفضــل في إضاءة جوانب مجهولة، أو مخفية، أو هامشــية في المجتمع، وتفاعل هاتين الشخصيتين مع «إبراهيم» رفع من وتيرة الأحداث وحرارتها وتسارعها وتشابكها وتأزمها وتعقيدها، ما أكسب الرواية دفعة قوية من الإثارة والتشويق والمتعة والترقب والمفارقة.

كان لافتا في الرواية موضوع الانتحار والرغبة فيه، فكما أن القشــة تقصم ظهر البعير، فإن اللمسة الرقيقة أو النسمة اللطيفة، أو الابتسامة الصافية قد تكون قشــة الغريق؛ تغير المصائر، وتعيد للنفس رغبتها في الحياة ومقارعة الصعــاب، وإعادة النظر في ما مضى، والأمل في المســتقبل، ومع أن الانتحار لا يشــكل ظاهرة مجتمعية في الأردن، لكنه يوشــك أن يكون؛ إن اســتمرت الأوضاع كما هي عليه، ولا مبشرات في الأفق.

في العمل الروائي الممتد زمنيا، من الطبيعي أن تنمو الشخصيات وتتطور وتتغير، وفق ســياقات وظروف مؤثرة، ولكن في هذه الرواية، لوحظ تحول كثير من الشــخصيات مــن النقيض إلــى النقيض، بعد تعرضهــا لصدمات أو ضغوطات أو زوال أســباب محــددة، ومن أبرز المتحولــن، كان «إبراهيم الورّاق» كما أسلفنا سابقا، ومن قبله والده «جادالله» الذي تحول بعد سجنه إلى شــخصية منطوية مرعوبة متكتمة، بعد أن كان منطلقا نشــيطا، وكذلك «ناردا» التي غيرت اســمها بعد وفاة أفراد أسرتها، وانطلقت متحررة وغيرت مكان ســكنها، ولم تنجُ «ماجدة» و «أسماء» فتحولتا إلى الدعارة تحت ضغط الظروف وقسوتها، وتتبع بقية شــخوص الرواية، يؤكد أن معظمها تحولت وتغيرت بدرجة كبيرة. هــذه التحولات الصادمة الســلبية في معظمها، هي جرس إنذار بأن الأوضاع المعيشــية أصبحت لا تطاق، وظروف الحياة صعبة للغاية، والظلــم يتفاقم، والفســاد يتمدد، وأن كل مواطــن مهمش هو قنبلة موقوتة برســم التفجير في أي لحظة، فهو لن يســتطيع الصبر والتحمل إلى الأبد.

وبعد، فــإن رواية «دفاتر الــورّاق» إضافة نوعيــة لتجربة جلال برجس الروائيــة والإبداعية، وللرواية الأردنية والعربية بشــكل عــام. ومن المؤكد أنها ستثير شــهية النـــــــ­ـقاد والدارســن، ومن قبل القراء؛ لما أثارته من موضوعات شــائكة، وأســئلة عاصفة، وأفكار لافتة، وكل ذلك بلغة شــعرية جميلة، وسرد ممتع متدفق، وقدرة على الإدهاش، وتعدد مستويات القراءة، خاصة أن القارئ سيشــعر بأنه قريب من بعض شخوصها، خاصة «إبراهيم الورّاق» صاحب أحد أكشــاك الكتب، أهم المعالم البارزة في وســط البلد في عمّان.

 ??  ??
 ??  ?? جلال برجس
جلال برجس
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom