Al-Quds Al-Arabi

حلم فوق رقعة شطرنج: رواية الذات

-

هذا النص السردي الممتع «حلم فوق رقعة شطرنج» باكورة ســناء الفقيه، وهي إحــدى طالباتي الجادات الموهوبــا­ت؛ لكنها مــن اللواتي انصرفــن إلى حياتهن الخاصة )الأســرة ومتطلباتها( وطلقن الكتابة؛ أو هن ظللن يكتبن في صمت؛ ويتهيبن النشــر. وقد ســعدت عندمــا أطلعتني علــى نصها هــذا، وأخبرتني بحيائها الذي عهدت؛ أنها لم تنقطع عن الكتابة والمطالعة. وكل ما تطلبه منــي أن أتعامل مع نصها، بــا مجاملة؛ وأن أنبههــا إلى مواضــع الوهن أو الخلل فيــه، إن وجدت. وكانــت بهــذا توقــظ فــيّ شــخصية الأســتاذ التي لا أعيشــها إلا أثناء الدرس، أما خارجه فأنا شخص آخر مختلــف تماما؛ وأتعامل مع النصــوص بعقلية القارئ الكاتب.

يحملنــا هــذا النص إلى عوالم شــتى لعــل أظهرها عالــم الأندلــس والموريســ­كيين. نص يُكتنــه في ضوء سيميائيات الصورة، وفي إيقاعها الذي يجري مجرى دوامــات الماء حيث يرتســم عالــم الطفولــة والمراهقة والــزواج والرحــات، التــي تعيــد ســناء تركيبها في الميديوم/الوســيط الســردي؛ وقــد تخففــت اللغة من شــعريتها، أو مِما زاد منها علــى الحاجة، أو من فضل القول. نص المرأة الحالمــة التي تغذي رؤية أو خيالا أو حلما، إن لم يكن أملا؛ وهو أن تكتب «سيرتها» على غير مــا عهدنا من مواثيق أدب الســيرة وســننه؛ وإنما في كتاب تنتظم كل مكوناته داخليا بحبل ســري معرفي، يصل بين مختلف صوره على نحو لا تهتدي إليه قراءة تكتفي باعتماد «الحساســية». وإنمــا ذاك أمر موكول إلى قــراءة تعتمــد، بالإضافة إلى الحساســية، العقل الحســابي أو الرياضــي، أو لأقــل لعبة الشــطرنج، أو رقعة الشــطرنج، وهي أشــبه برموز فــي الجبر معقدة جدا، مادامت ســناء قد وســمت نصها بهــذا العنوان الدال.

وقــد يقع في ظن القارئ أن هــذا النص على صلة ما برواية ســتيفان زفايــغ «لاعب الشــطرنج»؛ والحق ألا علاقــة بين النصين، لا من قريب ولا من بعيد. ومع ذلك «تلعب» ســناء في هذا النص، باقتدار، كما يلعب بطل زفايغ، بدون رقعة شطرنج وأحجار؛ وبلا شريك سوى ذاتهــا، وكأنها صورتها في المــرآة. ومثلما صنع لاعب زفايغ رقعة شــطرنج مــن لحاف ســرير زنزانته، ومن قماشــه المرســوم في هيئة مربعات، واتخــذ من فتات الخبز الذي كان يدخره، قطع شــطرنج؛ كان يشــكلها في هيئة أحجار: ملك وملكة وفيل، ثم يستغني عن هذا كله ليلعب على نحو أعمى، أو مثل موســيقي محترف؛ تصنع ســناء بهذا العمل، رقعة للكتابة الذاتية، تحرك أحجارها بتقدير كمي نوعي

فــي شــكل لولبــي أو حلزونــي؛ وهــي تتعهــد موضوعاتهــ­ا من كلمــة إلى كلمة، بما يعنــي أنها تفتح

ولا تغلــق، كما هو الشــأن في الدائــرة. واللولب حتى وهو يــدور كالدائرة، فإنه يفتح علــى اللانهائي، وهو فــي النص الــذي نحن به وفيــه، عالم المــرأة الخاص. وفــي هذا مــا يجعل الشــكل اللولبــي يعــود أدراجه، وقد أضاف إليها، خاصة كلمــا تناولنا ذلك من زاوية جمالية التلقي.

وقد يكون هذا الشكل أشبه بدائرة، غير أنها دائرة تنتشــر حيث حلم المرأة أن تكتب كتابا يتحول فيه وبه شــكل لغوي إلى شــكل من أشــكال الحياة التعبدية، وشكل حياتي إلى شكل من أشــكال اللغة. هذا النص «اللاعــب» ليس صرخة امرأة فــي واد، وليس بالكلام الذييذهبسـ­ـدى؛أوالذات الموكولــة إلــى قدرها، وهي تعاني من وطأة عالم ثقيل أعمى؛ لا طاقة لها على تحملــه، إنما هــو نوع من»العــدادة» أو طريقــة الذات الســاردة في اكتناه شــخصيتها، مــن خــال تلــك «الطفولة الســعيدة كشــرنقة صغيرة ملفوفة بخيــوط مــن الحريــر والحــب، نســجها والداها حولها». وتوقع مســتقبلها بواســطة التحليــل العــددي لخصائصها.

لا حــرج مــن إدراج مفهوم اللعب بالمعنى الاســتطيق­ي، مــادام الأمــر يتعلــق ببنيــة وجــود الأثــر، الأثر نفســه. وللتوضيح فإننــا نقــرأ هــذا النــص عســى أن نفتح ثغرة في جــدران عالم اللعبة الســردية المنغلق على نفســه جماليا. ولعله من الواضح أن هذا المقال وهو مختزل جدا، بحكم السقف المحــدد له؛ ليس بالعمل التأويلــي، لأن بنية هذا النص ـ على مــا نرجح ـ بنيــة هيرمينوطيق­يــة، أو هي مؤولة ســلفا، وربما كانت الشخصية إذن تتأول سيرتها، أو هــي تلاعب ذاتها. وأقدر أن هذا ما أفلحت فيه ســناء، حيــث الكتابة عندها، وهي قارئة جيدة أيضا بالعربية والفرنســي­ة، مُشــرعة علــى مــوارد شــتى )الفنــون التشــكيلي­ة والموســيق­ى خاصة( وتجســيد لأجناس مختلفــة، وتشــبيك بــن نصــوص متباينــة الأزمنــة والأنساب، تتعالق في ما بينها على نحْو ملتبس؛ فهي

متماهيــة من حيث هــي، في الوقت نفســه، متجاورة؛ من حيث هي، فــي الوقت ذاته أيضــا، متحَاورة. ومن حيــث هي في الوقت ذاتــه تتفاصلُ ليتجــاوز بعضها بعضــا. ونحن فــي هــذا النص، فــي متاهة ســردية، بالمعنى الإيجابي للكلمة؛ متاهة معقودة على الانفعال أو الوجــدان والذكــرى، حيــث المرأة تتجلــى تدريجيا بشــكل حلزونــي أو لولبي، وتنجرف فــي تيار الكلام ودواماته، وتتسلل بذكاء بين خيوطه. لنســمها «روايــة الــذات» إذن، وهــذا ســرد مبنــي فــي الظاهــر مثل الســيرة الذاتيــة على ذاتيــة الكاتبة والســاردة )أي الشــخصية( والإيهــام بالواقــع، أو بعلاقة ما بين الفن والحياة؛ كما هو الشــأن في العمل الروائي، حيث الكاتبة تقص جانبا مــن حياتها، وما يدور فــي خلدها مــن أفــكار، ومن عــارض أوهــام وطــارئ بــذواتٍ، أو مــا تنطــوي عليــه مــن غريــب الأطــوار وعجيــب الأســرار؛ ولكــن بأســاليب الروايــة، وباســتعما­ل أسماء قــد تكــون محرفــة أحيانا، أو اســتخدام ضميــر الغيبــة أو أســلوب الالتفــات من عدول مــن التكلــم إلى الغيبــة أو الخطــاب أو العكــس. وفيهــا يلتبس «أنــا» الســارد بـ«أنــا» الشــخصية بـ«نــا» الكاتــب. وهــو التبــاس ســائغ مقبــول؛ وقــد لا يخفىأن تطورفــنال­ترجمةالذات­ية كان مــن تطــور فــن الروايــة، خاصة ما يتعلق برســم الشــخصيات، والإعراض عــن القوالــب، والجمع بين طريقة كاتب الســيرة وأسلوب الروائي؛ حتى في نوع من الإغــراب أو اســتنباط دخائل العقــل الباطن؛ فقد صار هــذا مثل ذاك أوفــر حرية وطلاقــة؛ وهو يتنكب السبل المطروقة. نص يقوم على انتقاء وقائع وشوارد وتفاصيل، بما يناســب حاجات الكاتبة أو رغباتها أو طموحاتها؛ في ســبيل «ذاك الحلم.. ذاك الصوت الذي ما يفتأ يسألها وأنــت؟ أين أنــت من كل هــذا؟ ألــم يحن الوقــت لكي تبحثي عن نفســك الضائعة منــك؟». تقــول هــذا حتــى وهي توهمنا ببراعة ومهارة بأنها تستجلب الشخصية/ الشــخصيات على مقتضى قانــون التداعي، أو مجرد علاقــة تقدحهــا الذاكــرة بــن الأشــياء، أو بواســطة الاســتذكا­ر، على أس مــن «قاعدةٍ تمثال»؛ فتنســى ما تريد أن تنســى، وتتذكر ما تريد أن تتذكر. ويتعزز كل ذلــك بخطية الخطــاب، من حيث هي علاقة محســوبة بين شكل ومحتوى، فيؤدي تغير أحدهما إلى تغير في الآخر، يكون متناسبا مع تغير محتوى الآخر أو شكله. والســؤال: هل من شــأن هذه الطريقة أن تؤمن للسرد «السير ـ ذاتي» نصيبه من الروائي وعالمه المتخيل؟

وجوابنــا أن هذا النص الســردي الحي يفيض على الرواية والســيرة الذاتية معا؛ وهو الســيرة الروائية؛ وقــد عززتهــا ذاكــرة قوية أتاحــت للكاتبــة أن تندس في سريرة الشــخصية، لتجلوها في مجلى الظاهر أو الواقع. ومن الرجاحة بمكان أن نقرر أن السارد «دور» يختلقــه المؤلف، أو هو يتبناه؛ وهذا ما يجعل الســيرة الروائية تقاســم الرواية بعض خواصها. بَيْدَ أن هذا لا يســوق إلى القول بأدبية خالصة في السيرة الروائية؛ فخلــف كل نظام أدبــي يختفي نظام ثقافــي. والقص يمتح من تلك المصــادر الثلاثة التي يمتح منها أي قص المؤلف صاحب الســيرة أو الترجمة والمؤلف ـ الكاتب، والسارد.

لكــن نحــن هنــا إزاء مدونــة ســردية هــي ليســت اعترافــات حتــى تلحــق بــأدب الترجمة، أو الســيرة الذاتيــة؛ وإنما هــي ثمرة عمــل جمالي معقــد، هو من ســعي المؤلفة ـ الكاتبــة ـ القارئة وهي تقــرأ حلمها في وجــه الرضيعة، حيث يعود الشــكل اللولبــي أدراجه: «حملت الرضيعة بين يديهــا وما أن نظرت إلى وجهها الصغيــر حتــى رأت حلمها يرتســم فوقــه، ذاك الحلم الذي لازمهــا كظلهــا، وكان بمثابة البيــدق فوق رقعة شطرنج حياتها، ينتقل من خانة إلى أخرى.

ولطالما انزعجت مــن التفكير والتركيز في أي خانة تضعه حتــى تربح اللعبــة وتنتصر علــى صعوباتها، ذاك المــارد المخيــف والبــركان الثائر يتحــول الآن إلى ملاك وديــع، فتخمد حممه ويتلاشــى صوتــه المزعج المبحــوح، ليتحــول إلى صوت بــكاء الصغيــرة، وهي تلتهم أصابعها بحثا عن ثدي أمها ...هدأ الحلم وخمد البركان وتلاشــى صــوت المــارد.. مســحت بأناملها علــى خــد الرضيعــة وقالت بصــوت خافــت: لا تبكي يــا صغيرتي ، ســأعتني بك علــكِ تجيدين نظــم عِقْدِك بنفسك وتختارين حباته حبة حبة.»

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom