Al-Quds Al-Arabi

محمد علي شمس الدين: القلب البشري سيهضم الآلة العنكبوتية

«حين يحدث حدثٌ جللٌ أهرع إلى قصائدي لأرى هل كنتُ رأيت»

- حاوره: عبد اللطيف الوراري □ بــدأتُ الكتابة باكرا، في الثانية عشــرة من عمري. كنْتُ أليف البراري والأصوات في ريف ســاحر في قريتي )بيت ياحون( في الجنوب اللبناني. شــراكةٌ بدائيّة كنْتُ أعيشــها مع التراب والحجارة وحيوانات المنزل وصوت المؤذن. كنْتُ في فردو

هو إحدى الشخصيّات القلقة في شعرنا المعاصر، لكنّنا لا نعدم في رؤيته للعالم مخايل الإيمان والحبّ والأمل. لذلك نشعر، ونحن نقرأ شعره، بأنّه قريبٌ منّا، قريبٌ من روحنا اليوم، وهي تواجه عالما أقلّ أمانا وأكثر جشعا وعنفا. يؤمن بأنّ القلب البشري هو المستقبل، وسوف يهضم الآلة العنكبوتية التي أدخلتنا في حياة قاســية من العلاقات والأسئلة. وما دام الأمر كذلك، فإنّ القصيدة تظلّ حيّة مثل «برق في ثياب الشجرة» بعبارته هو، التي يحملها ديوانه وهو في الطريق إلينا.

في هــذا الحوار، يتحدّث صاحب «قصائد مُهرّبة إلى حبيبتي آســيا» وابن الجنوب اللبناني الشــاعر محمد علي شــمس الدين؛ عن تجربته الشــعرية، ومراحل تطوُّرها، والأسئلة التي تؤرقها، إنشاء وتلقّيا، مؤكّدا على أنّ «الشــعر العميق هو شــعرٌ اســتراتيج­يٌّ لا يلحق بالحوادث بل يســبقها» وأنّ ما زال أمامه الكثير ليقوله رغم الشيخوخة التي لم تزِدْ قصيدته، بغنائيّتها الخاصة وبرقها الموجع، إلّا خِبْرة وحيويّة وشبابا.

عبور التجربة

■ عبر هذه المســيرة الطويلة من كتابة الشــعر ومعاناته، ومن عبور اللغة وتاريخها الحديث، أين أنت الآن؟ المرّة» الآداب 1984:) «كان يلزمني كي أفسّر هذا العذابَ قليلٌ من الشعر لكنّني لم أكُنْ شاعرا ما الذي كان يفعله الشعراء مثلي لكي يَصِلوا؟ إنّها حالتي: أرى لا أقولُ سأروي لكم سرّها فاسمعوني: لم يكن في البداية إلّا الظلامُ وروح ترفرف مثل الحمام على الغَمْرِ والله مبتهجٌ وحدهُ ثم جاء الكلامُ كان بَرْدٌ وحُمّى يلفّان جسمي وأنا في ردائي غريبٌ ومختَطَفٌ كيفَ أروي الذي كانَ منّي وأبعدُ من لغتي نشوتي والسلامُ»

أوجاع الشعر ومصادره

■ يطالــع القارئ فــي دواوينــك «وجعا» فــي البحث عن الــذات وكينونتها ورغبتها فــي قول ما لا «يقــال» إلامَ ترجعُ هذا الوجع؟

■ يعتبــرك الكثير من الدارســن واحدا مــن القلّة الهائلة التي ساهمت في تطوير القصيدة العربيّة، هل تعتقد أنّ هناك «أزمــة معنى»؟ وهل فــي ضياع المعنــى ما يُشــير إلى ضياع التاريخ واللغة والهويّة أليغوريّا/ رمزيّا؟

□ هنا مربط كلّ ما أكتب، بل هنا مربط الشــعر والفكر والديــن والوجود بكاملــه. ولعلّ هذا الســؤال الخطير يصلح ليكون عنوان كتاب بكامله. أســتطيع أن أجيب عن هذا السؤال إجابات متعددة، بدءا من مناقشة «المعنى» ما هو؟ وهل هو؟ انتهاء بالتباسه، ونسبيّته، وتداخل ألوانه في الوجود واللاوجود، إلخ.

■ مــا هي المصادر الكتابيّة والمعرفيّة التي تتوكأ عليها في كتابتك؟ وفي مواصلة نحت تجربتك؟

□ أنــا قارئٌ دائــمٌ وصامتٌ وليليٌّ للقــرآن. وغالبا ما يقشــعرّ بدني وأُصاب بالانخطاف عند قراءته أو سماعه. بعد ذلــك أنا قارئٌ لكلّ شــيء: فــي التواريخ والسّــيَر المتنوعة القديمة والحديثــة، العربية والعالمية؛ فضلا عن قراءتــي الأكاديمية للتاريخ من خلال شــهادة الدكتوراه في التاريخ الإســامي القديم، التــي أحملها من الجامعة اللبنانية.. أقرأ الفلســفة بكافّة وجوهها بكثرة. أقرأ جميع أنواع الآداب من شــعر ونثر وقصة ورواية ومســرحية، بالعربية والفرنســي­ة، وبالترجمات مــن جميع اللغات، القديم والحديث. عاشقٌ للسينما، وعاشقٌ بامتياز للفنون التشــكيلي­ة، ولديّ قصائد لكلّ من، غوغان، فرانز مارك، المــرأة التي فرّت من لوحة ســلفادور دالي، ولي صداقاتٌ قويّة مع فنّانين تشــكيليين مهمّين عرب ولبنانيين. أصغي للموســيقى وأقرأ الوجود. أبرز أصدقائي في الإبداع هم: امرؤ القيس، طرفة، المعري، المتنبي، التوحيدي، جبران، السيّاب، الماغوط، البياتي، أنطونيو ما تشادو، أنطونان آرو، كوبولا، مارلون براندو، فان غوغ، بيكاســو، دالي، ميرو، أصداء الســيرة الذاتية لنجيب محفوظ، يوســف حبشــي الأشــقر، نيرودا، صلاح عبد الصبور، ســعيد الكفراوي، جاك بريفير، الجاحظ، يوسف إدريس مسبوقا بتشيكوف، ماركيز، كورتاثار... الإرث الصوفي الإسلامي: العطّار النيســابو­ري، حافظ الشــيرازي، جــال الدين الرومي، الحلّاج، السهروردي وسواهم.

■ يعتقــد أنّ الشــيخوخة تســاهم فــي جعــل التجربــة الإنشائية تتقهقر، لكن نشعر بأنّك كلما طال بك العمر ازددْتَ بهــاء واكتمالا عمّــا قبل. هل لهــذه الأمر ارتبــاط بخيرة اليد والقلب والرؤية؟

□ أنا صاحب أطوارٍ شــعريّةٍ وتحوُّلات، هذه المســألة أُحِسُّ بها ذاتيّا بقوّة، والدارســو­ن لشــعري يرصدونها ويشيرون إليها باستمرار. هناك دراسات بيانية مرسومة لتطــوُّر وحياة بعض الكلمــات، المفاتيح فــي قصائدي، ابتداء من الدم وانتهاء بالطير، مرورا بالماء والريح )ورد ذلك بشكل أساسي ومفصّل في أطروحة الدكتوراه باللغة الإسبانية حول شــعري، بجزئين من 900 صفحة، أعدّها حســن علي أمين، وأجيزت بامتياز في جامعة الأوتونوما في مدريد عام 1991 تحت عنوان: محمد علي شمس الدين في إطار الحداثة الشــعرية: حياة وآثــار(. يعود ذلك في نظــري إلى عوامل أهمّهــا القلق الدائم تجــاه القصيدة، واعتبــاري لقصيدتي هــي التحدي الأكبر لي شــخصيّا. سأُدْلي بســرّ: أنا لا أفكّر بالشعراء الآخرين، مطلقا. أعني لم أعتبــر أحدا منهم، مهما كبر اســمه وصيته، خصما لي أو منافســا، أو خطرا علــيّ.. لا أعيش حسَّ المنافســة لا أعيش حسَّ المنافســة إلا مع قصيدتي. أنا خصم نفســي. حين يحدث حدثُ جللٌ، كالحــروب، والهزّات والثورات، أهرع إلى قصائدي لأرى هل كنتُ رأيت؟ ما زلت حتّى هذه اللحظة، وبعد 13 مجموعة شعرية أعيدت طباعتها مرّاتٍ عديدة، ما زلت أرتعب مــن القصيدة ولا أنام. أخاف. نعم أخاف جدّا من القصيدة. القصيدة مرضي وشفائي، حيث لا شــفاء. وأنا قارئٌ نَهِمٌ ومتأمّلٌ دائمــا في الحياة. متأمّلٌ في صيرورات الأفــراد والجماعــا­ت والأرض والأفلاك.. والقصيــدة هي ســاحي الوحيد، والوحيــد، والوحيد في مواجهة كلّ شــيء. لذلك لا أنــام على مجدها، ولا على نجاحها، ولا على إنجازها. أنا دائمــا متربّصٌ بالقصيدة وأنتظرها.

بالمناســب­ة، عــددٌ لا بــأس به مــن الشــعراء العرب المكرّسين بأسمائهم، عاشوا لسنواتٍ طويلة، يستعيرون من أنفســهم ولا يُجدّدون. نزار قباني الــذي أُحبّ جزءا من شعره عاش ســنواته العشر أو العشرين الأخيرة بلا أيّ هاجسٍ للتجديد، ويســتعير من ماضيه بيسر وخفّة، وهناك شــعراء آخرون من أعلام الروّاد ما زالوا يعيشون بيننــا حتــى الآن )أطال الله فــي عمرهم( لكنّهــم ماتوا تجديديّا وإبداعيّا من عشــرات السنوات. محمد الماغوط الذي شغفْتُ بدواوينه الثلاثة الأولى شغفا لا مزيد عليه، مات إبداعيّا بعد هذه الدواوين، حتى أنّ قارئه يعجب منه ويسأل: هل هذا هو عينه ذاك؟ وقد كتبْتُ يوم رحيله مقالة طويلة في تجربته الشــعرية في مجلّة «العربي» بعنوان: الماغوط الأول والماغوط الثاني.

على الروّاد الباقين على قيد الحياة اليوم الانتباه لهذه المســألة الخطيرة. ثمّة موْتٌ إبداعيٌّ غالبا ما يسبق الموت الجسدي، يعاني منه الكثير من الشعراء. إمّا يتعبون، أو يستريحون إلى الشهرة وبريق الإعلام، أو تفرغ الشحنة الإبداعية. والأغــرب أنّ الأكثرهم ضوضاء هم اليوم الأقلّ إبداعا.. فتأمَّلْ.

وضع الِّشعر وتلقّيه اليوم

■ في نظرك، ما هي وظيفة الشعر اليوم؟

ـ للشِّــعر وظائف كثيرة، وفي الوقت نفســه، ليس له وظيفة. من وظائف الشــعر المتعة والاحتفــا­ل بالجمال، وتحريــك الُمخيّلــة، وتحريــك الذاكرة، وإيقــاظ النفس البشــريّة علــى شــتّى المعانــي، والتمتُّع بالموســيق­ى، وبالإنشــا­د، والتعبير عن المعنى والحيرة، والسؤال في الوجود والعــدم، والتعبير عن اللامعنــى أيضا، ومتعة النفس وألم العقــل، إلخ. إذن، القصيــدة تخاطب الذات والوجود بشــتّى أنواع الخطابات. اليوم، وبعد منافسة فنونٍ كثيــرةٍ للقصيدة، منها الرواية والقصة والســينما والمقالة والمســرحي­ة، وبعد دخول الشــبكة العنكبوتية لا على حفــظ القصيدة إلكترونيّا وحســب، بل على تأليفها أيضا آليّا وتفاعليّا.. أرى أنّ دور القصيدة الأساسي اليوم هو أن تبقى «كائن اللُّغة» الخاص، أي»حارســة اللغة..» مهما تطوُّرت الفنون والعلوم.

■ هل تعتقد أنّ الشــعر ما زال قــادرا على الوجود، وعلى المساهمة في بعث الأمل والتفاؤل في زمنٍ لا شعريٍّ؟

□ يــرى كثيــرون أن التطوُّر الآلي والتقنــي، العولمة والشــبكة العنكبوتيـ­ـة، عصــر الاســتهلا­ك الســريع والتحوُّلات البرقية، مُنافســات الفنــون، ودمار اللغات وتهافتهــا أو هلهلتها.. كلّ ذلك أدَّى إلى وضع الشــعر في مرمى صعــب، أو حالة حرجة. والحال هو أنّ الفلاســفة الألمان، وعلى رأســهم هايدغر أشــاروا إلى موت الشــعر كمعطى تزييني للفلســفة. القصيدة هي أصلٌ وجوديٌّ في اللغة، وهي أصلٌ وجوديٌّ في الفــنّ، وهي أصلٌ وجوديٌّ في الوجود. لذلك هي تتغيّر وتتحوّل ولا تموت: لأنّها هي جوهرٌ بشريٌّ لا يزول إلا بزوال الإنسان. ولنا أن نسأل مع سيادة الشــبكة العنكبوتية والعالم الرقمي: هل ستبتلع الشبكة الإنســان الذي أوجدها، أم أنّ القلب البشري هو الذي سيبتلعها؟ قال ذات مرة الشاعر والمسرحي والممثل الفرنســي أنطونان آرتو إنّ الإنســان سيبتكر وحشا في المختبــر يأكله. أعتقد أنّ القلب البشــري ســيهضم الآلة العنكبوتية وليس العكس؛ لذلك القصيدة حيّة.

■ هل ترى أن الشــعر ما زال يغري الجمهور؟ أم أنّ هناك فجوة بينهما؟

□ الفجــوة بــن القصيــدة والآخريــن موجــودةٌ، بحضور جمهورٍ مهما كان اتّســاعه، وبلا حضور جمهور. هــذه الفجوة ســببها خصوصية القصيدة، وأســرارها، وطبقاتها.. وما يُســربِلُ جمالها من غمــوض. أخاف من الناس على قصيدتي، وأميل إلى إسماعها لواحدٍ )واحدةٍ( فقط... فإذا كان لا بُدّ من جماعــة أو جمهرة يملأون قاعة أو ساحة، فإن الخوف يتضاعف: والمسألة، تبعا لتجربتي الشــخصية، ليس لها مقيــاس ولا قاعدة. حضــرْتُ مرّة أمسية لمحمود درويش في القاهرة، لم يكن فيها جمهور ولا حماســة للقصائد. كان يقول لي نزار قباني إنّه في أمسية له في الســودان كان الناس بعدما ملأوا الساحة، صعدوا على الأشــجار ليســتمعوا إليه. قلت له: وليأكلوا المانغا أيضا. أنا تخيفني بل ترعبني الكثرة. أحيانا تمتلئ القاعة التي ألقي فيها قصائدي عن بكــرة أبيها. أحيانا لا.. ليس ثمّة من قاعدةٍ فــي هذا الموضوع. أنــا لا أعرف على وجه الدقّة، ما هي علاقة الجمهور بالقصيدة؟ قد تجد إنســانا يُشــعرك بأنّ قصيدتك هي حياته ومتعته. قد تتدلّهُ نساء جميلات وحسّاسات جدّا بشعرك. أنت لا تعرف، فالعلاقة غامضة، والعدد لا يفصل في الموضوع...

أعتقد أنّ القصيدة اســتحقاقٌ لصاحبها واســتحقاقٌ لقارئهــا. هي تختــار القــارئ، وليس العكــس. الكثرة قد تكــون لعنة والقلّــة رحمة للقصيدة. الآخر بالنســبة للقصيدة غامضٌ ومتحرّك.

■ إذا طُلِب منك كشــاعر ما الذي بــودّك أن تقوله لمن يُجاهرون بعدائهم للثقافة والشعر في زمننا العربي؟

□ هناك فئةٌ كلبيّةٌ من الناس تعتبر أن الثقافة بشــكل عام، والشــعر مرضٌ اجتماعيّ. أريــد أن أقول ما يلي: إذا نظر الأعمى إلى الشــمس وقال: ما أشــدّ الظلام! هل يُؤثّر ذلك في الشمس ويُؤدّي إلى غيابها؟ كيف تتصوّر شجرة أو حتّى صخرة، بلا شعر؟ فكيف بالإنسان؟

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom