Al-Quds Al-Arabi

فريد الأطرش وفن الأوبريت: مهارات الموسيقى والغناء والتمثيل

- ٭ كاتبة مصرية

يمثل ما أبدعه فريد الأطرش فــي فن الأوبريت، جزءا من موهبته العظيمة، لكننا نجد فــي هذا الجزء الصغير عالما موســيقيا شاســعا، يمتلئ بالحياة والحســن وكل معاني الجمــال، ويظهر أوجه النبــوغ والعبقرية وأناقة الثقافة والأســلوب، وجدة وثورية ذلك الشاب الطموح، الذي انتقل بفن الأوبريت من المســرح إلى الســينما في بداية الأربعينيا­ت، حين كادت مصر تنسى هذا الفن، بعد أن ودعت سيد درويش وداعا مريرا، لكن القدر أهدى إلينا هذه الموهبة الكبرى، والنفحة السماوية الطيبة، والعقل الذكــي المنفتح والقلب الذي يســتطيع أن يســع الكون، وهكذا كانت موسيقاه أيضا تحتوي الجميع وتسعى إلى وجدان كل عربي، وتتطلع شرقا وغربا، وتخاطب العالم بأكمله وتسمعه صوت الموسيقى العربية ولغتها الراقية.

لم يــأت فريد الأطرش إلــى عالم الأوبريــت تابعا أو مقلدا، ولم يكــن في يوم من الأيام نســخة باهتة من أي فنان آخــر، وإنما أتــى محدثا أصيلا يحمــل فنه الذاتي الخالص، ورؤيته الموسيقية، بعيدا عن محاكاة الأقدمين، وكم كانت فكرة الانتقال بهذا الفن من المسرح إلى السينما جريئة وعبقرية، تشع بالحداثة والروح العصرية في ذلك الزمن، وهو بالطبع لم يقدم الأوبريت بشــكله التقليدي، كما كان يُعرض على المسرح، ويعد الاختصار الزمني من أول ملامح التحديث والتطوير، فإن الأوبريت لدى ســيد درويش، على ســبيل المثال، تزيد مدته عن الســاعتين، في حين أن أطول أوبريت لحنــه فريد الأطرش لا يتعدى 24 دقيقة، وهو الأوبريت الأول «انتصار الشــباب» 1941 الذي يعــد تحفة موســيقية بكل معنى الكلمة، ونشــعر بأنه أوبرا مصغرة بالفعل، بثيمته الموســيقي­ة الرئيسية، وغناء أســمهان الأوبرالي، وتموجات صوت السوبرانو وتقنياتــه المذهلة، وقــدرة فريد الأطــرش على التلحين لحنجرة نادرة الوجود.

في هذا الأوبريت لا نســتمع إلى بوادر نبوغ الموسيقار الشــاب، بل نســتمع إلى إنجاز عظيم كفيــل بأن يصنع له المكان الأســمى فــي عالم الموســيقى العربية، ونتأمل

بإعجاب وذهول هذه الحماسة العبقرية، التي كانت تملأ نفسه، وهذا الانتصار الموسيقي الكبير الذي حققه شاب لا يمكن أن يُهزم، تعبر موســيقاه عــن القوة لا الضعف، ولهذا الأوبريت أهمية تاريخية كبــرى إلى جانب قيمته الفنية، لأنــه يمنحنا تصورا عن الشــكل الذي كان يقدم به هذا الفن على المســرح، لأننا نراه كمــا لو كان عرضا مســرحيا متكاملا، تم تصويــره ســينمائيا، حيث نجد الأوركســت­را الكاملة، ومن خلفها الجمهور، بينما نشاهد المغنين والممثلين على الخشبة.

ومــن ناحية البنــاء الفني فإنه يحتــوي على الغناء الفردي والجماعــي، والتداخل الصوتي والإلقاء الملحن، والتمثيــل والشــخصيا­ت، والحوار والعقــدة الدرامية والحــل المفرح، وربمــا تصنع هذه الأمــور بعض الصلة بالماضــي، لكننا موســيقيا نجد أنفســنا فــي عالم فريد الأطرش تماما.

ولا يمكن مقارنة أوبريت «انتصار الشــباب» بأي عمل آخر، فكل الأعمــال اللاحقة اختلفت كثيــرا، وقد صارت الصــورة أكثر ســينمائية، والمدة أقصر زمنــا، واختفى الحوار الدرامــي والفقرات التمثيليــ­ة، ووجود الممثلين بأدوار وأسماء وشــخصيات، وتم الاكتفاء بإلقاء بعض العبــارات القصيرة الملحنــة، أو غير الملحنــة، لإضفاء الطابع الحــواري، أو التذكير به علــى الأقل، لكن لم يتم الاســتغنا­ء عن التابلوهات الراقصــة، وصارت حركات الجســد التعبيرية بديلا عن التمثيل والحوار، حيث نجد في بعض الأوبريتات مســاحة زمنيــة للرقص الفردي، أو الجماعــي وبعــض حــركات الباليه الأساســية، كما في أوبريت «ســلطان الجن» وفيها يعبــر فريد الأطرش بالموســيق­ى فقط، ويلحن للجســد وخطوات الراقصين، ولا تخفى قوة الإيقاع في ألحانــه، كما هي قوة الميلودي والجانب الغنائي لديه، ولم يظهــر فن الأوبريت قدرات فريد الأطرش الموســيقي­ة وحســب، لكنه جعلنا نكتشف مهاراته المتعددة في الغناء ونســتمع إليــه وهو يؤدي ألوانا أخرى غير الأغنية الفردية الرومانســ­ية، كالألوان المصرية المحلية، البلدي والفلاحي والصعيدي، مثل لحن «أحنا الصعايدة نحب الجد» في أوبريت «ما تقولش لحد» واللهجة الشــامية بالطبع والموال الشامي البديع أيضا، وحاول أن يقترب من لهجــات وإيقاعات المغرب العربي في لحن «مراكش فين وتونس فين» في أوبريت «بســاط الريح» الذي قدمــه عام 1949، وهو من كلمات الشــاعر العبقري بيرم التونســي، الذي ألف أوبريت «شــهرزاد» لســيد درويش عام 1921، ويشهد «بســاط الريح» على تطوره أيضا في كتابة الأوبريت وقدرته على الاختصار، وتقوية الفكرة، وتكثيف المعنى بهذا الشكل.

كما ألف فريد الأطرش لحنا ســودانيا في أوبريت «ما تقولش لحد» وغناه المطرب الســوداني إســماعيل عبد المعين، وكان فريــد واقفا إلى جواره وقبّلــه بود بعد أن انتهى من الغناء، فهو لم يكــن يلحن لصوته فقط، وإنما لحن لأجمل الأصوات مثل أسمهان ونور الهدى وصباح، وبعض الأصوات الأخرى التي ظهرت بصوتها فقط وغنت بعــض المقاطع القصيرة، وكان ينطلق في شــتى نواحي التعبير الموسيقي وذلك ما تدلنا عليه آثاره في هذا الفن، بالإضافة إلى التنــوع الهائل والانفتاح على الموســيقى الغربيــة، كما في أوبريت «الشــرق والغرب» مع الحفاظ على ابتكاراته الذاتيــة وكافة مميزاته وصفاته الأصيلة، والحرص علــى خلق الشــخصية الحديثة للموســيقى العربية، وتجتمع كل العناصر التعبيرية والتصويرية في ألحانه بطلاقة لا مثيل لها، سواء في الصرامة الكلاسيكية ودرجات الحزن العميق، والضربات العنيفة أحيانا، التي تعبر عن الاضطراب وتصــور صراعا ما أو عقدة درامية، واللمســات التراجيدية في العبارات الموسيقية البطيئة، وكذلك في الألحــان المرحة بخطوطها الميلودية الشــيقة وحســن توظيف الكورال، وتظهر قــوة التعبيرية لديه في المقاطع الموســيقي­ة الخالية من الغنــاء، وقدرته على بنــاء الصورة ذات الطابع القصصــي، ووصف الطبيعة وتلحــن الفصول كما في لحن الربيــع. وكذلك كان يهتم بالتعبيــر من خلال الغناء، فالطــرب عنده لم يكن مجرد اســتعراض صوتــي فــارغ مــن الشــعور، وكان صوته الحنون بنغماته الســاحرة التــي تســتأثر بالقلــوب يفســر مختلف الأحاســيس والانتقالا­ت العاطفية.

وكما أن لفريد الأطرش عشــاقه كموســيقار ومطرب عظيم، فله عشــاقه أيضا كممثل، يحبــون رقيه ومرحه وحزنه ورومانســي­ته الحالمــة، وكان بالفعــل من أكثر المطربين قدرة على التمثيل، لكننا نتحدث هنا عن التمثيل الغنائي، الذي كان يقوم به في فــن الأوبريت، والتعبير الدرامي عن كل ما يكمن وراء الغناء من مشــاعر، كما في أوبريت «صانع التماثيل » عندما يغني «يا حبايبي يا أهلي يا ناســي في هواكم عمري ما أقاسي» وينقل إلينا شعور الفنــان الحقيقي وهو يناجي أعمالــه الفنية التي هي كل عالمه وملجأه الآمن من دنيا البشــر، ولم يقتصر الأمر في فن الأوبريت على التلحين والغنــاء والتمثيل، فإنه كان يرقص أحيانا ويؤدي بعض الخطوات البسيطة، كما في مســتهل أوبريت «ســلطان الجن» وهو يراقص حاملات أقفاص البلابــل ويقبلهن الواحدة بعــد الأخرى، وكان يجيد الرقص الكلاسيكي البطيء مع البطلة، كما نرى في جميع أفلامــه، ويرقص بالعصا من خلال بعض الحركات القليلة أثناء أداء الألــوان المصرية المحلية، وإلى جواره ســامية جمال التي يحيطها بذراعه وبحبه، بينما ترتسم خطوط قوامها على أنغام موســيقاه كما لم ترتســم على أي موسيقى أخرى، وقد تفوق عليها في رقصة الدبكة في أوبريت «الشــرق والغرب» وبدت خطواتها ضائعة إلى حد ما، وكان هو أدق وأسرع منها وأكثر جذبا للعين.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom