Al-Quds Al-Arabi

جورج برنارد شو وخرافة المثالية

-

«مــا العمــل مع الذيــن لا يمكــن حكمهــم والضارين وعديمــي الضمير والأنانيــ­ن وعديمي البصيــرة والأغبياء؟ لا تعاقبوهم، بــل اقتلوهم». لم تكن هذه الجملة المرعبة من أقوال رجل مجنون، أو من فيلم رعب من أنتاج هوليوود، بل من أشهر كاتب مسرحي في العالم في القرن العشرين، هو الايرلندي جورج برنارد شو، الذي يعتبره النقاد أعظم كاتب مسرحي في تاريخ بريطانيا على الإطلاق، بعد شكســبير. وأشهر أعماله «بجماليون» مصدر مسرحية وفيلم «سيدتي الجميلة» و«القديسة جَون» ترجمت إلى العربية تحت اســم «جان دارك» و«الإنسان والإنسان الجبار» و «قيصر وكليوباترا .»

برز برنارد شــو في أغلب أنــواع الأدب، وهو الكاتب الوحيد في العالــم الذي حاز أعظم جوائز الأدب والســينما في العالم، وهما جائزة نوبل للآداب )1925( وجائزة الأوســكار )1939) لأفضــل نص ســينمائي لفيلــم «بجماليون». ولكنــه كان أيضا يحــاول أن يكون مفكرا وناشــطا سياســيا بطريقته الخاصة، وعبّر عن أفــكار غريبة، وعديدة عن كيفية تطوير المجتمع. وكان بارعــا في جــذب الانتباه إليه بأي شــكل كان، حتــى عن طريق التعبير عن أفكار مثيرة للجدل فــي مختلف الميادين، وكان هذا أحد أهم أسباب شهرته.

من هو جورج برنارد شو

ولد برنارد شــو في مدينة دبلن )عاصمــة جمهورية أيرلندا حاليــا( عــام 1856 لعائلة متوســطة من أصول بروتســتان­تية إنكليزية. ولم ينهِ المدرسة الثانوية، ولكنه كان قارئا شرها لكل ما اســتطاع الحصول عليه من كتب، عمل في عدة وظائف قبل أن ينتقل إلى لندن عام 1876. واســتطاع في لندن أن يبرز كناقد أدبي وموســيقي فــي الصحف المحليــة. ولكنه ســريعا ما بدأ بالتفكير بضرورة تطوير المجتمع البريطاني بمختلف الوســائل وتأثر بالأفكار الماركســي­ة في ثمانينيات القرن التاســع عشــر. بدأ مســيرته الأدبية كاتبا للروايات، ثم أخذ يكتب المسرحيات، حيث كانت أولى مسرحياته الشهيرة «مسرحيات لطيفة وغير لطيفة» (1898(. تبعتها عدة مســرحيات شــهيرة دعمت مركزه كاتبــا كبيرا في بريطانيا والعالم، ما عــزز من صعوده إلى قمة الأدب العالمــي، كونــه برز فــي بريطانيا وهي فــي قمة مجدها السياســي والثقافي، حيــث كانــت الإمبراطور­يــة البريطانية في أعلى مراحلها، وأنتجت الرموز الثقافية الأشــهر في العالم مثل برنارد شــو )المســرح( و أج جــي ويلز )الخيــال العلمي( وأدوارد الجار )الموســيقى الكلاســيك­ية( وجــون مَينارد كينز )الاقتصاد(. وكان الإعــام البريطاني الأقوى عالميا، فمن يبرز في بريطانيا، يبرز في العالم أجمع.

كان برنارد شــو ســريعا في اعتنــاق الأفكار اليســارية في ثمانينيات القرن التاســع عشــر، واعتبــر أن المجتمع لا يتطــور إلا باتخاذ إجراءات قاســية لتحســينه. ولذلك تأثــر بكتابــات كارل ماركس، وآمن بضــرورة فــرض الأفكار الاشــتراك­ية علــى المجتمــع، معتقدا أنهــا دواء لجميــع العلل الاجتماعيـ­ـة. ولكن الأمر لم يقتصر على اليســار بالنســبة له، بل تجاوز ذلك ليدمج معتقداته مع إحدى أوســع الأفكار انتشــارا في الأوســاط الثقافية الغربية منذ العقد التاســع من القرن التاســع عشــر، وحتى منتصــف القرن العشــرين. وقد ركزت هذه الفكرة على تأســيس مجتمع مثالي بطرق غير إنسانية. وتنص الفكرة على أن الطريقة الوحيدة لتحســن المجتمع هي الإكثار مــن الأفراد ذوي الصفــات المعينة المرغوب فيها داخل المجتمع، عن طريق تزاوج من لديهم هذه الصفات وتشجيعهم علــى الإنجاب. ومعاييــر هذه الصفات هي المســتوى العلمــي والصحي والاقتصادي ودرجة طاعته السياسية. وفي الوقت نفسه تنص النظرية علــى ضرورة منع الذيــن لا يملكون الصفات المرغــوب فيها على الإنجاب للتقليــل مــن عددهم عن طريق تشــجيعهم، أو إجبارهــم على الإجهاض، أو التعقيم، أو أي وســيلة أخرى. وأســاس الفكرة أن تصرفات الإنسان الشــخصية ومســتواه الاقتصادي والعلمي وآراءه أشياء متوارثة وغير مكتســبة بعد الولادة، وبذلــك يتكون المجتمع المثالي من أشــخاص ذوي صفــات معينة، مــن حيــث العقيــدة والتحصيــل العلمــي والاقتصادي

والاتجاه السياسي، واختفاء كل من هو مختلف عن الآخرين.

وحســب هذه النظرية كذلك، فإن ســبب فقر الإنســان، ليس مجتمعه أو حكومتــه، بل طبيعته التي ورثها من والديه، أي أن الســبب جيني، ولا يمكن التخلص من هذه المشــكلة، وبالتالي فإنه شخص لا يمكن تحسينه، ويشــكل عالة على المتفوقين في مجتمعه. وتنص هــذه النظرية مثلا على أن المــرأة الحامل التي قد تعتقد أن الطفل ســيكون عبئا عليها لســبب ما، يجــب أن تتخلــص منه عن طريق الإجهــاض، لأنها إن أنجبته ســوف لن تربيــه جيدا، فيتحول إلى إنســان غير ناجح أو فقيــر أو مجرم، وبالتالي ســيكون ضارا بالمجتمع، وحجر عثرة أمام تقدمه. وتطبق النظرية نفسها على أي شــخص لا يجده الآخرون مرغوبا فيه بســبب عاهات جســدية، أو أفــكار غريبــة، أو كون الشــخص «غير منتــج». ولا يوجد أي أســاس علمــي، يدعم ادعــاء هذه النظرية، فلــم تكن علما أصلا، بــل مجموعة من الاعتقــاد­ات الخاطئــة، قدمت بشــكل يعطي الانطبــاع بأنها علــم. ولكن الكثيريــن من مثقفي بريطانيا آمنوا بها كحقيقة مطلقة في القرن التاســع عشــر، حيث كانت تتطور وتنتشــر تدريجيا في بريطانيا وبلدان أخرى. وكان الفيلســوف اليوناني أفلاطون، أول من كتب أفكارا مشــابهة لهذه النظرية، حيث كتب في كتابه المعروف «الجمهورية» عن ضرورة تأسيس مجتمــع متفوق يتكون مــن أفراد الطبقات العليا، والحــد من التزاوج بين أفراد الطبقة الواطئة. واقترح أفلاطون عدة وسائل لتحقيق ذلك الهدف، مثلا ألا يتزوج الرجل ســوى المرأة التي يختارها الحاكم، وســمح بزواج الأشــقاء. أمــا أول من كتب عن هــذه الفكرة، فــكان العالــم ورجل الدين البريطانــ­ي تومــاس روبرت مالثــس، الذي أقتــرح عــام 1798 عدة طرق للتقليــل من عدد الفقراء عن طريق جعل حياتهــم أكثر صعوبة. وبالتالي تقل أعدادهــم. ولكن العالــم البريطاني داروين جعل هــذه النظرية تبدو وكأنها علــم، حيث تكلم عن البقاء للأقوى، وإمكانيــة تطبيق هذه الفكرة في المجتمع في كتابه «انحطاط الإنســان» الذي دمــج فيه أفكاره مع تلك التــي أثارهــا قريبه الســير فرانســيس غولتن عالم الإحصاء الأشــهر. وقال غولتن إن اختيار الأبوين ســيؤدي إلى إنتاج جيل غير عادي من حيث الجودة.

لا يمكن الاعتقاد أن الأمر هو مجرد فكرة عابرة، إذ اخترقت أعماق الفكر الأوروبي واتفق مع أفكارها الكثيرون من رموز المجتمع الأوروبـــ­ـي، مثل فيلســوف الشــيوعية كارل ماركس الذي قال إن نظريـــــت­ه الماركســـ­ــية ستكون مستحيلة بدون أفــــكار داروين.

واعتقـــــ­د الكثيرون مــــن الاشـــــت­راكيين البريطــــ­ـانيين أن تطوير المجتمــع يتطلب وضع خطط لتحقيق ذلك، ويشــمل هذا تخطيــط التناســل، فكمــا تقــوم الشــركات بتحســن إنتاجها الصناعي، تقوم المجتمعات بتحســن نفسها عن طريق تحسين النسل، وإنتاج أطفال من والدين ذكيين وأصحاء، وغير فقراء. وكانت مثلا الناشطة الاجتماعية البريطانية ماري ستوبس، من أنصــار هذه النظرية، حتى أنها صرحت بأن الحشــود من ذوي «العيوب» يجــب أن يتم تقليلها كي يكــون عبئها أقل على الذين بدون عيوب. ولذلك، حرمت ابنها من الميراث لأنه تزوج من فتاة عانت من قصر النظر، حيث قالت إن تلك الزوجة ســتنجب على الأغلب طفلا يشكو من المشكلة نفسها، ما يجعله غير مثالي.

تأسســت جمعيــة خاصــة للمؤمنــن بهــذه الفكــرة، ضمت مجموعــة من مشــاهير الطبقــة الثقافيــة، والاجتماعي­ة في تلك الفتــرة، وكان أحدهم الخبير الاقتصادي الأشــهر في بريطانيا جــون مَينارد كينــز، الذي ترأس تلك الجمعيــة من 1937 وحتى 1944. وقــال كينــز إن الطبقــة العاملة ســكيرة وجاهلــة، وإنه يجــب تخفيــض أعدادهــا، وإن هــذه الفكــرة هي الفــرع الأكثر أهميــة من فروع علم الاجتماع. وامتد تأثير هذه الفكرة الواضح إلــى «الجمعية الفابيانية» التي كانت تؤمن بنشــر الاشــتراك­ية الديمقراطي­ــة بطــرق ســلمية وتدريجيــة، وكان مــن أعضائها السياســي الهندي جواهرلال نهرو. وأســس أعضاؤها أشــهر كلية اقتصاد في بريطانيا، هي مدرسـ�ة لنـ �دن للاقتصاد Lon

‪don School of economics‬ عــام 1895. وقــال أحد مشــاهير الأساتذة في هذه الكلية هارولد لاسكي، الذي كان رئيس حزب العمال لفترة، إن الوقت ســيأتي بالتأكيــد عندما يعتبر المجتمع إنتاج الضعفاء جريمة بحقه.

لم يبــقَ الأمر في حــدود المثقفين والجمعيــا­ت، حيث اقترح تقرير برلماني فــي بريطانيا عام 1934 بالتعقيــم للمواطنين غير الصالحــن عــن طريق التطــوع، وقامت بعض أشــهر الصحف البريطانيـ­ـة بتأييــده. واقتــرح وليام بيفيــردج، حرمــان الذين يعانــون من عيوب عامة مــن حق الانتخاب والحريــات المدنية، وحتى الأبوة، وهو الذي أســس نظام الضمــان الاجتماعي في بريطانيا.

برنارد شو وتطبيق أفكاره

آمن برنارد شو قبل الحرب العالمية الأولى بفكرة تغيير المجتمع تدريجيا وبشكل سلس، وانضم إلى «الجمعية الفابيانية» ولكن اتجاهه أخذ يتغير أثناء الحرب العالمية الأولى، حيث أخذت أفكاره تتميز بالقسوة والتغيير الفــوري العنيف، حيــث قال في إحــدى المــرات، إن الاشــتراك­ية الممكنة والأساســي­ة الوحيدة تشــمل زيادة عدد الذين تم اختيارهــم. وأيد تبوؤ ستالين قمة الســلطة في الاتحاد الســوفييت­ي، كما دعم حملات التطهير الجماعــي، التــي قام بهــا. وتكلــم كذلك عن معســكرات الاعتقــال التي أسســها ســتالين، مختلقا مختلف التعليلات الواهية لتبريرها، حتى أنه قال إن المعتقلين فيها يســتطيعون مغادرتها متى يشــاؤون. وقام بزيارة ستالين في الاتحاد السوفييتي عام 1931 واصفا أياه بالشخص المسالم.

الغريــب فــي الأمــر أن كل ما قاله برنارد شــو مــن أفــكار عنيفة وغير سوية لم تؤثر في شعبيته بين عشاق المسرح والمثقفين في العالم، بل إنه بالتأكيد سيبقى نجما ساطعا في سماء الثقافة العالمية.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom