التدين الياباني )4:) الوطن الأسطوري
تداولــت الأمم القديمــة قصصــا خرافيــة عن مســارها في التاريخ، فقد عرف الناس أســاطير اليونــان عن آلهتهــم الســخيفة، وامتــأت كتب التاريــخ بقصــص خرافيــة عــن مصــر القديمة، واســتمر ذلك حتى اكتشــاف حجر رشــيد، لكن المدهش فــي الأســاطير اليابانية، أنها مقدســة، وأنها باقيــة إلى زمننا هذا تُحكــى وكأنها تاريخ يمكن الوثوق به.
وتقول الأســاطير المقدسة اليابانية، إن الكون نشأ بالصدفة البحتة، وأنه بدأ بانفصال مفاجئ بــن الســماء والأرض مــع بقائهمــا قريبتــن، حتى إن ســهما أطلق مــن الأرض فصنع ثقبا في السماء، ومن هذا الثقب هبطت على الأرض آلاف الأشــجار والأعشاب والكائنات الحية، بل إن كل ما على الأرض حســب هذه الرواية سقط من هذا الثقب، وبقيت في الســماء آلاف أخرى كثيرة من هذه الأشياء، تحيا حياة أكثر بهاء.
كان اليابانيــون يعتقــدون أن الأرض التــي نعيــش عليهــا هــي وســط بــن عالمــن آخرين، أحدهما ســفلي يعيــش فيه الناس حياة ليســت لطيفة، وعليه باب يؤدي إلى هذا العالم، وقد ظل مفتوحا لزمــن حتى أتى زلزال عظيــم فأدى إلى إغلاقه، والعالم الثاني علوي في الســماء تعيش فيه كائنات وآلهة، واعتقدوا أنه قريب جدا يمكن الصعــود إليه عبر جســر ظل ممتــدا بين الأرض والســماء، حتى انكســر ولم يعد أحد يســتطيع الصعود بعده.
صحــح المصريــون تاريخهــم ونســوا خرافة الملكــة دلوكــة، وتجــاوز الأوروبيــون أســاطير اليونــان، ولكــن بقيت هــذه الحكايــات العجيبة ملهمــة للشــعب اليابانــي حتــى زمننــا، وبقــي لكتابي الأساطير الشــنتوية المقدسين، كوجيكي ونيهونجي، إلهامهما في الثقافة اليابانية.
يبــدأ كوجيكــي بأســطورة عــن نشــأة الجزر اليابانية، التي تعد في الاعتقاد الشنتوي خلاصة ما أنجز الآلهة، فبعد الفوضى التي سادت الكون، وفي سير الحوادث التي فصلت السماء عن الماء، ظهرت عــدة آلهة في الضباب، ثــم اختفت، حتى ظهــر في المشــهد الكوني إلاهان، ذكــر «لزنجي» وأنثى «لزانامي» وقد تلقيا تكليفا من شركائهما في الســماء لصنع الجزر اليابانية، ثم هبطا فوق قــوس قــزح، ولما بلغــا المنطقــة الســفلى، غرس الإلــه الذكر رمحــه المرصع بالجواهر، ثم ســحب الرمح بكمية مــن الطين فصنع منها إحدى الجزر اليابانية، ثم استقرا على الجزيرة التي ولدت من رحمها الجزر الثماني، ثم وُلد باكورة سكان هذه الجــزر، خمس وثلاثون جزيــرة كلها آلهة، ولكن آخرهــم أحرق أمــه عند ولادتــه، فضربه لزنجي بالسيف ضربة خلقت آلهة تطير في الفضاء على حال من الفوضى، وخـــلق هـــذا الإله أعظم آلهة اليابــان، وهو أماتيراســو آلهة الشــمس، ثم إله القمــر، ثم إله العاصفــة من منخريه، ثــم إن آلهة الشــمس قررت إقصاء إله العاصفــة، لما رأته من فوضــى عارمة في البلاد تحت حكمه، وأرســلت حفيدهــا جيمــو ليحكــم الجــزر اليابانيــة، ومن جيمو تسلسل أباطرة اليابان الذين يسمون أبناء السماء يحكمون شعبا من سلالة الآلهة.
ويــؤرخ اليابانيون لهــذه الحادثة بســنة 660 قبل الميلاد، لكن المؤرخين يســتبعدون هذه الدقة فــي فتــرة تمتد لألف ســنة قبــل ظهــور الكتابة. وهــذه الأســطورة، في ســجلات الآثــار القديمة )كوجيكي( توحي بأن لليابان رســالة إلهية على الأرض، كما أن كوجيكي ينتقل في سهولة ويسر من الأســطورة إلى التاريخ، وكأن كل شيء حقق بعد تنقيح بمعايير لا يرفضها العقل. شكلت هذه الأسطورة في وجدان اليابانيين الميل إلى تقديس الأســاف، وبنــاء الهيــاكل للآبــاء والأجــداد، وتقديم الذبائح لهــم، فاليابانيون يعتقدون أنهم صفوة الخلق، وأنهم أول الخلائق، وليس عندهم في حوادث الخليقة ذكر للأمم الأخرى. لقد أثرت هذه الأســاطير، وما زالت تؤثر فــي الفكر الديني اليابانــي، فاليابانيــون يعتقــدون أن الشــمس والقمــر والنجوم والجبــال والشــجر والدواب، وكذلك الظواهر الطبيعيــة كالرعد والبرق والمطر والعواصــف والــزلازل، تســكنها أرواح عظيمة، وفيهــا كامي مخيف وكامي رحيــم يبعث الرهبة والحب فــي النفــوس، وأن الطريــق الوحيد إلى التعايش مع الطبيعة، هو تقديم الطقوس للكامي الكامن فيها من أجل استرضائها.
لا يوجد شــعب يحب الطبيعــة مثل اليابانيين، إنهم يعشقون الأزهار والأنهار ويهيمون بالجبال والتلال، ويتعلــم الفتى الياباني في صغره كيف يضحك للورود وينســقها، ويسقيها ماء الحياة، ويعــد هذا عنــد أبويه تربيــة دينيــة. وقد منحت الطبيعــة والمنــاخ اليابانيين صفــات التميز، فهم يعيشــون ثمانيــة أشــهر مــع الأجواء المناســبة جــدا للعمــل، ولا يحتاجون إلــى الراحة في فترة الظهيــرة، لأن أشــعة الشــمس حانيــة على أهل الجــزر، ولهذا تميــزوا مع الصينيــن والكوريين بالقدرة على العمل الشــاق، ووفرة الطاقة للدأب والاســتمرار، والتمكن من أفضل أخلاقيات عمل في العالم. ويقال إن اليابانيين يفضلون الشمس التــي تصحبهم إلــى العمل علــى القمــر الذي لم يتعود الذهاب إلى المصانع.
ويشــعر اليابانيــون بالتميــز الــذي وهبتهــم إيــاه الجغرافيا، إذ لا تعد بلادهــم جزءا من كتلة الأرض، التــي تتمــدد عليهــا القارتان الآســيوية والأوروبيــة، وربما يفســر هــذا وحــدة أمة على أرض موزعــة فــي مســاحات صغيــرة تقطعهــا الجبــال والمياه بتقســيمات طبوغرافية تكون 68 إقليميــا متفرقا، فاليابانيون مــع ذلك أمة متحدة تعطي مثلا فــي الانســجام والتجانس، وتفضل التلاقي عبر المواصلات البحرية.
واليابانيــون معــــــروفون بأنهــم يحدثــون كثيرا عن جمــــــال الطبيعــــة فـــــي بلادهـــــم، فمع كــــثرة الأنهار تكـــــــثر في اليابــان الجبال الخضــراء والمروج الزاهية والجــداول الرقراقة، والتمازج الســاحر بــن البحر والجبــل والغاب، ولهــذا يعشــق اليابانيــون الــورود والتصويــر والرسم.