Al-Quds Al-Arabi

هبوط البياض

-

كلّما أهربُ من الوقتِ، من قلقِ الساعاتِ العجولةِ، من سنواتي الباردة .. تهبــطُ ســيدةُ البيــاضِ، تلملمُنــي كالشظايا، تغسلُ ســنواتي بالتيزاب، وتعلّمها العريَّ والهذيان..

منــذ عشــرين عامــا وأنــا العدّائين، أركضُ خلفَ أسئلتي، خلفَ البياضِ/ بياضِها الهاربِ مثل اللصوص. منذ سنواتٍ ساخنةٍ، وأنا أعلّقُ البردَ على جسدي، أُفتّشُ عن جمرةِ فمِها، عن عنقِها المشبوكِ باللهيب، عــن الرضــابِ المســكون بشــهوةِ الطيران،

عن اشــبهُ عن... الفراغُ وحدُهُ يبادلني الرائحةَ، والقميصُ الأبيضُ يترك أزرارَه للريحِ، كلاهما يدركان قسوةَ النداءِ، إذ ينفــرُ الأبيضُ العســليُّ، مثل طفلٍ مشاغبٍ، يبعثرُ التفاصيلَ والخرائطَ، وأوراق الطاولة...

2

لأنــي أكــرهُ الفــراغَ، أرفــعُ يــدي لاصطيــادِ الهــواء، والاحتجــا­ج علــى الغيابِ، غيابها القديم، غياب الرائحــةِ والقميصِ والرضابِ والهذيانِ والحُمّى، والوشوشاتِ الُمدوّخة. الفراغُ، أقصد فراغَ التفاصيل، الكرســيَ، الوســادةَ، كوبَ الشاي، دخانَ الأرجيلة،

بقايا منديلٍ أحمر،

عند هبوطِ البياض، أتحسسُ ذاكرةَ الألوان، استعاراتِ اللغة، جغرافيا الجسد. رائحةَ البللِ في أصابعها وفي فمها، إذ يوهماني بالغرقِ، بشــغفِ الموج، بأغاني السفّانة.. عند هبوطها، تنكسرُ علبةُ الألوانِ، فتتسعُ اللوحةُ، وأضيق أنا، كلانا ضدان، مجنونان، نرمم الوقتَ بالسهو، حين ينسلُّ فمُها الاحمرُ، مثل مجنونٍ، ابدأ طقوسَ الاعترافِ، والصحوِ، أبعثرني على الجدارِ، والطاولةِ، وأترك أصابعي لاصطياد الهواء. عند هبوطِ بياضِها، ناصعا، لامعا، أكــره ســيرةَ الفاتحــن، والمغنــن، وأصحاب الستربتيس،

أكره سيرةَ كولمبس، وذاكــرة وتنــي هيوســن، وأخطاء الأباطرةِ العراة..

لأشــدو لها وحــدي، حيــث احتفي بالبياض، البياض الذي يُعقّم ســوادي بالديتول، أو ماءِ فمها، أو ربما أحتفي بالفراغِ، فراغِها العالقِ بأخطائي، بسوادِ الحروبِ، بسيرةِ الوقتِ الباردِ دون جمرها، والسنواتِ التي تشــبه علبةَ الألوانِ تماما..

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom