Al-Quds Al-Arabi

قديسات ومومسات: عبور التاريخ والجغرافيا!

-

تعودت لســنوات طويلة، وبشــكل متزامن، على متابعــة أعمال فنية ووثائقيــة، تتناول حقبــا تاريخية مختلفة، لشــعوب متباعــدة كثيرا فــي الجغرافيا والتقاليــ­د، وكذلك قراءة كتب بحيث يصــدف أنني أتابع كتابا، ثم أقرأ في كتــب أخرى، قبل أن أعود للكتــاب الأول أو الثالث، في طريقــة اعتبرتها مفيدة لتدريــب الدماغ على رؤيــة المفارقات التاريخية والاجتماعي­ة الهائلة في اشــتباكها بواقع جغرافي أو تاريخي ما، مقارنة بوقائع جغرافية وتاريخية أخرى.

وكمــا يمكن أن نرى، عند متابعة الأعمال الأدبيــة والفنية عوامل أزلية وقواسم مشــتركة بين البشــر، يدخل فيها مثلا تأثر البشــر المعاصرين بالملاحم والقصائد والأعمال الســحيقة في قدمها، والإيمان بالســرديّات الدينية القديمــة، كذلك نرى الاختلافات البينة بــن الثقافات، واللغات، وردود الفعل البشــرية، حين تتخذ شــكل البيئة التي تــزرع فيها ثقافيا وجغرافيا وسياســيا، بحيث يظهر الاختــاف الثقافي وتخضع العناصر «الخالدة» لـ«تثقيل» و«تقطير» بيئي وثقافي، يربطها بعناصر أكثر قدما، أو بعناصر تقتضيها الطبيعة والجغرافيا والاجتماع.

يســتطيع البشــر التعاطف والتماهي مع شــخصيات ماتت منذ مئات أو آلاف الســنين، حتى لو كانت مــن ثقافات مختلفة عــن ثقافاتنا، وهم يتفاعلــون مع روايــات تاريخية أو مســتقبلية أو فانتازيــة، كما لو أنها تخصهم وتعيش معهم، لأن تلك الشخصيات تستطيع كشف هذه العوامل الإنســاني­ة العابرة لحدود التاريــخ والجغرافيا والاجتماع والشــعوب والطبقات.

تابعت خلال الأشهر الأخيرة عينة يمكن اعتبارها عشوائية، تضم باقة مسلســات تتحدث عن تواريخ شعوب مختلـــــف­ة، كان أولها مسلسل ‪Peaky Blinders‬ البريطــــ­ـاني، الذي تبدأ أحداثــه في مدينة برمنغهام بعـــد الحرب العالمــية الأولى، ومسلسلا كــوريا عنوانــه الإنكليــز­ي هو ‪Rookie Historian‬ الذي تجري أحداثه في بداية القرن التاســع عشر، ومسلســل «ممالك النار» الإماراتي الذي تدور أحداثــه في الأعوام التي سبقت هزيمـــــة المماليـــ­ـك )مرج دابق عـــــام 1516( كما أتابع حاليا مسلســا تركيا شــهيرا هو «قيامة أرطغرل» الذي تدور قصته في القرن الثالث عشر، ومسلســل Harlots البريطاني، الذي تبدأ أحداثه في لندن عام 1763.

إضافة إلى مئات الســنين التــي تفصل بين أحداث هذه المسلســات، والتباعد الجغرافي بين البلدان التي تجري فيها، فقد اشــتغل على أنواع الدراما هذه، كتاب ومخرجون وممثلون مختلفون اختلافا بينا، لكن هذه الاختلافات التاريخية والثقافية والجغرافية، لا تمنع من وجود الكثير من العناصر المشتركة، سواء لأســباب دراميّة، وهو ما يدخل في عنصر النقد الأدبي والفني، أو لأسباب أخرى من المفيد اكتشافها.

دراما تركيّة ضد الأتراك

ينسج «قيامة أرطغرل» سيرة دراميّة بطولية لمؤسس الدولة العثمانية على خطوط الســرديّات القومية والدينية لقبائل الأوغوز التركية، ولكن ضمن قصتي حب بــن ابن رئيس قبيلة قايي، أرطغــرل، وحليمة حفيدة البيت المالك الســلجوقي، وليس غامضا، في هذا السياق، وجود تأويلات حديثة لتلك القصة التاريخية، ضمن سرديّات الأحزاب القومية والدينية التركية المعاصرة، وهو ما يتابعه في ذلك، وإن من جهة معاكسة، مسلسل «ممالك النار» الذي يبدو الشــغل عليه، رغم التمويل الإماراتي والممثلين المصريين والســوريي­ن واللبنانيي­ن، نوعا من السرديّة المعارضة للمسلسل الســابق، غير أن المفارقة الكبيرة، أن المسلســل الإماراتي الموجّه بشــكل هجائــي ضد العثمانيين، يســتخدم عناصر قــارّة ومتمكنة فــي الدراما التركيّة، مع قلب للمســمّيات، فالفرقة الســرّية الغامضة والشريرة، التي تدعم الملك ســليم الأول العثماني تبدو نســخة من فرقة «فرسان الهيكل» التي تتقمّص هذا الدور الشــرير في «قيامة أرطغرل» كما أن ينسخ «ممالك النار» قصة الحب بين أرطغرل وحليمة، ليصبح قصة حب بين طومان باي ونلباي، وبالتالي يمكــن اعتبار «ممالك النار» بهــذا المعنى، دراما تركيّة مقلدة موجّهة ضد الأتراك!

يتابــع «المؤرخة روكي» قصة التحوّل الحديــث لكوريا، عبر قصة حبّ أيضا بين المؤرخة غو هايريونغ )التي هي البطلة الرئيســية للمسلســل( والأمير يي ريم، الوريث الشرعيّ لأبيه الملك، الذي تم الانقلاب عليه وقتله، غير أن الحبكة هنــا لا تتعلق بجريمة ضد ملك شــرعيّ، بل أيضا بتزوير التاريخ الذي جرى، والذي يعتبر، حســب التقاليــد الكورية التي يقدمها المسلسل، خرقا لمحرّم كبير جدا، يشبه الكفر والخيانة في مجتمعات دينية.

تتابع المسلسلات الثلاثة، حكاية صعود وهبوط تاريخية، تختلط فيها العناصر القومية والدينية لأطراف مهددين من أعداء كثيرين، ضمن علاقة بين مقاتل شــاب وأميرة )فــي حالة «قيامة أرطغرل») وبين أمير وشــابة مملوكة )في حالة «ممالك النار») وبين أمير وفتاة من الشــعب )في حالة «المؤرخة روكي».)

آيكيز ونانسي: عقاب الأنوثة الفاعلة

تحضر مســألة الصعــود الاجتماعــ­ي والنفوذ السياســي والمالي في المسلســلي­ن البريطانيي­ن أيضا، ففي «بيكي بلايندر» ينحدر أفراد العصابة الصاعدة، من مزيج مهجن بين أب أيرلنــدي وأم من الغجر )ولكنها أيضا أميرة في قومهــا!( في إقليم إنكليــزي تقوم فيه صراعــات قاتلة، تجمع أيضا بين النزاعات السياســية والقومية والدينية )الســلطة الإنكليزية من ناحية، والجيش الجمهوري الأيرلندي والشيوعيين وغيرهم من جهة أخرى( ونزاعات مع عصابات يمينية متطرفة وإيطالية ويهودية، وتحضر النزاعات الجندرية )حيث النساء، المومسات وغير المومسات، هن بضاعة يمتلكها الرجل( وكذلــك النزاعات الطبقية الحادة بــن إقطاعيين وعامة الشعب، مع لمسات عنصرية، في مجتمع كان الرق فيه ما زال شرعيا.

من المصادفات الغريبة، أنه خلال مشــاهدة متزامنة لمسلســلي «قيامة أرطغــرل» التركي و«مومســات» البريطاني، أن بطلتين فــي كلا العملين تعرضتا لعقوبة الجلد بالســوط، وأن كلا البطلتين تحملان صفات يتّسم بها الذكور، فنانســي الإنكليزية تتلقى الزبائن المازوخيين الذين يرغبون في تلقي الضرب والإهانة، و«آيكيز» ابنة الحداد وأحد وجهاء قبيلة قايي الأوغوزية، هي أقوى المحاربات وتتقن القتال بالســيف والنبال، وتفرض حضورها على الرجال لإنقاذ حبيبها تورغوت، وكما تُهان نانسي وتشتم وهي تســاط، تشــتم آيكيز أيضا وتتهم في عرضها وولائها للقبيلة، فهل يمكن أن تكون، ولو بشــكل غير واع لدى المؤلفين، شحنة الذكورة الزائدة سببا للعقوبة، وأن ترؤس نانســي لمظاهرة ضد السلطات، الذي يجعلها أكثر نساء اللحظة الدرامية شجاعة، وبطولة آيكيز وحبها المذهل، اللذين يجعلانها متفردة، يجعلهما على حدود القداســة التي تستوجب الإهانة والتدنيس؟

فــي «الخط الملكــي» الحاضر فــي كل هذه المسلســات، هنــاك حيّز كبيــر لاحتقار الملوك والملكيّــة وربطها، أحيانا كثيــرة، بالفحش والظلم الاجتماعــ­ي والخيانة السياســية، ومقابل صعود الأفــراد العاديين إلى مقــام البطولة، يهبط الملــوك والمقربون منهم إلى حضيــض كبير، يتمثّل في «مومسات» ليس في اســتخدام النساء كسلعة وحسب، بل كموضوع للقتل الجنسيّ الفاحش، وهو خيط مستمرّ ومحسوس في الأعمال الأدبية الإنكليزية، وبينما يثبت أرطغــرل وحليمة، وآيكيز وتورغوت، وتوماس شيلبي وغريس بورغس، وغو هايريونغ ويي ريم، حضور الحبّ كرافعة للارتقاء الإنســاني والاجتماعي، نحو أعلى مقام اجتماعي ممكن، يتزامن احتقار رموز الشرّ الدرامي للنساء وسوء معاملتهن مع انحطاط اجتماعي وإنساني.

بتشــابك هذه الخطوط الاجتماعية والدينية والسياســي­ة والعاطفية المتعاكسة، وبتفاعلها، وانقلابها، تخترق أنواع الدراما المحرّمات، ويتبادل أطرافها المواقــع، وفي الوقت الذي نحظى فيه بالمتعة الفنية للمشــاهدة، تتعرّض قناعاتنا لامتحانات شتى.

 ??  ?? حسام الدين محمد٭
حسام الدين محمد٭

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom