Al-Quds Al-Arabi

رسالة إلى طاهر جاعوط: نحن تائهان في الربوة

- ٭ كاتب جزائري

العزيز طاهر

أجزم أنك لا تعرفني، لم يسبق أن التقينا ولن نلتقي. اسمي سليم دبكي، لست سوى شــخصية مُتخيلة من رواية بعنوان «حطب ســراييفو» أنت أيضا تغفل عن كونــك قد تحولت إلى شــخصية، تنط مــن رواية إلى أخــرى، أحيانا تظهر باســمك وأحيانــا أخــرى ينوب عنــك ظلك، لقــد صرت قصــة، تتغير نهاياتها، حســب مزاج كتّابهــا، لم تعد جســدا، بل أنت نص مُكــرر، أنت اســم لا صــورة، أنت الثابــت الذي يذكرنــا بأننا أســرفنا في تعاطي الطوباوية. لقد ســال دمك وتوقف قلبك فــي 1993 وقد أتممت حينــذاك الثالثة والعشــرين من عمري، التحقــت بالصحافــة، وكان يجــب أن ألحــق بك فــي حياتك الأخــرى، أن أجادلك في ما ورد في رواياتك، وفي أشــعارك، لكــن كاتــب روايتي فضّــل أن يُنكل بــي، كان ســاديا، قرر أن يستمر خيط سيرتي، كي أُشاهد العبث يتراكم، كل مرة، أمام عيني ولا قدرة لي على صده.

هل هناك من يُراسلك؟ حيث تُقيم الآن لا توجد إنترنت، وقد ألــف الناس في الســنين الأخيرة التواصل في مــا بينهم فقط بالوســائط الاجتماعية، أو على الإيميل، باتوا مُستعجلين كما لو أن عزرائيل يســتعجلهم مثلما استعجلك، صرنا نشتاق أن يطرق ســاعي بريد بابنا، لقد صارت البطاقات البريد ســلعة مكدســة مثل جيفة بلا رائحة. من يتسع وقته كي يدون عليها بضع كلمات ثم يدفع ثمن طابع ويُرسلها؟ جاء قوم من بعدك أكثر كســا من شخصيات رواياتك. لذلك خمنت أن أكتب لك، مــع أنني أنا أيضا لا أحد يُراســلني، آخر برقية وصلتني، كما ورد في الرواية التي ورطني فيها كاتبها، لم تكن سوى رسالة تهديد بالقتل، من الجماعة ذاتها التي قتلتك. هل يُعقل أن آخر من راســلنا هم جلادونا! انتهى أمرك برصاصهم، أما أنا فقد نجوت، والنجاة نذير شؤم في القرن العشرين لا بشرى!

كتبــت في مجموعتك الشــعرية الثانية «فُلــك ضال» وأنت فــي أوائــل العشــريني­ات مــن العمــر: «أضعت للأبــد النجمة التي تســوق خطواتي» أنا أيضا أضعتهــا، لكنني خجلت من مُصارحــة الآخرين بذلــك. لقد وُلدت في عام حــرب التحرير، في عام النار بين الجزائر وفرنســا، وأنا أيضا وُلدت بعد أربع عشــرة ســنة من ذلك، في عام الخصومة مع فرنســا، بسبب براميل البترول. كلانا أطلق صرخته الأولى تحت ســماء تعج

بالدخــان، فلا غرابة من أن يتشــابه مصيران. وُلدت في العام الــذي كتبت فيــه قصتك الأولــى «العصــاة» ورفرفت روحك، في العــام الذي أدمنت فيه فعــا قراءة الروايــات. بينما كان «نواطير الأرواح» يبتغون قطع رقبتينا، كنا أنا وأنت مُنشغلين بالأدب والصحافة، نسينا أنفسنا في زحمة فضولنا بحيوات الكتّاب وشخصياتهم. لقد بكى الآلاف ولا يزالون على رحيلك المباغــت، تعســر عليهم أن يرضــوا بمصيرك الــذي لا يحتمله ســوى الشــعراء الملعونين، ثم ماذا بعد الحــزن؟ لقد تحولت إلى كتلة خرســانة يُطلق عليها «دار صحافة» لم يهتم نحاتون بتشــييد نصب لك، على الأقل كي لا ننسى ابتسامتك القمرية، وتســريحة شــعرك كما لو أنك خرجت من فيلــم «عمر قتلتو» لمرزاق علواش. لقد أخبرت القراء من بعدك أننا «من بلد لا يُقيم تماثيل لكتّابه، ولا يسمي شوارعه بهم. كل الشوارع والميادين تحمل أسماء مُحاربين قدامى، أو أئمة، أو سياسيين، التماثيل للعســكريي­ن وحدهم» ظني أنك تتفق معــي، فقد خلقنا جميعا فــي هذا البلد كي نموت، جســدا أو ذاكــرة، المهم أن نموت في أقرب وقت، كي نُتيح مقاعدنا في الحافلة لمن سيخلفوننا. منذ 1993 تتكرر جنائزك، لقد دُفنت وقمت ثم دُفنت مرة أخرى، بل مــرات، لكنك لا تعلم، لأن لا أحد تجرأ على مُراســلتك، ولا أحد جاهر بأن تلك الجنائز يُحمل فيها جثمانك في النعش، في كل مــرة يروجون كذبة أن النعش لصحافــي آخر، أو لكاتب آخر، أو للصحافــة أو للأدب، بينما الميــت واحد في كل مرة: أنت يا طاهر جاعوط. قرأت ما كتبته في قصيدتك «شمس تتوارى:» «وُلدت/ ضريرا أتحســس العتمة/ اقتفي نورا مســتحيلا» ثم قضيــت ما يربو على عقدين بدون أن تبلغ ذلك «النور» عشــت بين عتمتــن كما هو حال الصحافة، التي امتهنتها، لم يتح لها أن تطــل برأســها على الضوء. رجــوت مُراســلتك كي التمس رأيك: لمــاذا تُصلب الصحافة في الجزائــر كل حين؟ تتذكر ما حصــل عــام 1965؟ حينذاك كُتــب الســيناري­و الأول في لجم الــرأي الُمخالف، وظل يتكرر حد الملل. كلمــا مرت البلاد بأزمة سياســية، يقطع ذيــل الصحافة مثلما يقطع ذيــل بُرص، قبل أن ينبــت لها آخر ســوف يُقطــع في الأزمة المواليــة. أتخيل ألا أحد أنبأك بأن شــكل الصحافــة قد تغير، ليســت بالضرورة ورقيــة، ليســت تحتــاج إلــى ورق وحبــر وطباعــة ومركبات توزيع وأكشــاك للبيع، بل صارت أيضا صحافــة إلكترونية، بإمــكان صحافي واحد أن يكتب، يحــرر، يقوم بإخراج المادة،

مراجعتهــا، ثــم طرحهــا للقــارئ، غــدت أكثر ســرعة مما ســبق، لكن الرقابــة أيضــا زادت من ســرعتها وضراوتهــا. لقد أضفت قائلا: «أنــا أعوي/ كي أنال حقي من الأرض الموعودة» هل نلته؟ أما أنا فلا.

العزيز طاهر

نحــن مُتشــابهان، وُلدنا بعيدا عــن هذه الربــوة التي اتفق مؤرخــون، غــزاة، بحــارة، قراصنــة، لصــوص، شــرفاء، سياسيون ومثقفون، على تسميتها بالجزائر العاصمة، لعلها المــرة الأولى التي يتفق فيها من ســبق ذكرهم على أمر واحد، على تســمية مكان باســم مشــترك، لكننا عشــنا بين سلالمها وانحداراته­ا، أحببناها مثلما أحببنا نساءنا، ووجدنا أنفسنا فــي الأخير مثل التائهين، تعلمنا منها الحق في التشــرد، وأن نحنــي ظهورنا حــذر الضربــات الطارئة، لكنها ربــوة قلقة، لا تســتأنس بالخمول، يخدعك صمتها، وأنــت تنظر إلى بحرها من قمــة كاتدرائيــ­ة الســيدة الافريقيــ­ة، لقد انتفضــت العام الماضي وكنت شــاهدا عما حصل لا فاعلا، لســت أعرف لماذا افتــرى عليّ مؤلف الرواية الذي زج به فيها، عندما سُــئل ماذا يُمكــن أن يفعل ســليم دبكي، لو أنه عاش حــراك 2019 أجاب بالقــول إننــي كنــت ســأخرج للشــارع وأرافــق المتظاهرين، والحقيقة أنني ظللت طوال الوقت في شــقتي، أتابع الأحداث من الإنترنت، لا أدري لماذا لم يحترم حقي في النذالة!

طفت أحــداث كثيرة ومُتســارعة منــذ ذلك الحــراك، الذي ينعته البعض بالثورة، وصلتني أســرار جد حاســمة، أبلغني بها صديقــي في الرواية فتحي، إنه مثــل خذروف، مقرب من الســلطة وخصم لها، شاركني في إطلاق جريدة )رادار( التي أغلقها أعوان الرئيس السابق، فأنشأ جريدته الخاصة، وبات من أوليغارشــ­ية الإعلام، أسرار من شــأنها أن تبعث الأموات مــن ألحادهم، ســأبلغك بهــا إذا تعاملت بجدية مع رســالتي هــذه ورددت عليّ. لقد قرأت ما كتبته عندما بَلغت العشــرين: «التقيت الله الليلة/ يا للعجب/ لم يتوجس مني» فلا تتوجس مني أنت أيضا!

 ??  ?? طاهر جاعوط
طاهر جاعوط
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom