Al-Quds Al-Arabi

ما قبل الإبحار

- «أسير بين النيران التي يسترها رماد خادع» ٭ شاعر مغربي

بدافع غامض، لا أعرف ما يكون، رأيت أن أكتب هذا الجزء من ســيرتي الشعرية. لا بمعنى الســيرة التي فيها أتحدث عن حياتــي، أو عن بعض حياتي، كما يفعل الشــعراء والكتّاب، وغيرهــم ممن أتيح لهــم أن يكونوا في قلب الحــدث الثقافي، أو الفني، بل بمعنى الســيرة النظرية ـ الجمالية، التي يكون فيها الشــعر هو موضوع الذات، أو تكون فيها الذات، بمعناها الشــعري الجمالي. أعني الذات الكاتبة، التي وجدت نفســها في ماء، إما أن تتعلم السباحة فيــه لتنجو من الغرق، وإما أن يســتغرقها المــاء فتطفو على سطحه، مثل قشة تدفعها الريح في كل اتجاه، بدون إرادة أو رغبة منها.

بقــدر ما كان الماء ســببا في غرقي، بقدر ما كان ســببا في معرفتي بالســباحة، وخوض ما واجهني بــه من أمواج، وما علا منهــا وارتفع، كان أكثر مما انحدر ماؤه وهوّن عليّ بعض أشــجاني. فالشــعر وحده مجرة، لا يمكن إدراك شساعتها، ولا ما تحفل به من مشــكلات وتشابكات، لأنه معرفيا، يفرض على من يخــوض ماءه أن يعــرف طباع الرياح والســحب والعواصف والأمواج، ويعرف متى يصــارع تياراته، ومتى يترك الماء يأخذه حيث شــاء، قبل أن يقــود الماء في ما يرغب فيــه من طرق ومســالك، بل من مضائــق، لأن كل ما يبدو في الشعر مســلكا، فهو ليس سوى مقدمة لمضيق، أو مضائق هي ما به يبني الشاعر ثقافته أو «علمه» بالشعر، أو بـ«صنائعه» لا بـ«صناعته» وفق تعبير القدماء.

لا معرفة بالشعر بدون معرفة بصنائعه، أو بما يحتمله من آلة، حتى ونحن نثور على هــذه الصنائع والآلات، فلا ثورة بدون معرفة أســباب ودوافع هذه الثــورة، لا أن نثور فقط، لنكون ثوريين بدون أن نعرف لماذا نثور، وما ســبب ثورتنا، وما الذي نذهــب إليه كبديل عن هذا الذي نثــور عليه، فكرا كان، أو رؤية وأفقا. حين أكد الأصمعي على المعرفة الشــعرية كشرط لا بد منه للشــاعر ليصير شاعرا، فهو لم يجعل المعرفة سابقة على الشــعر، بل جعلها الإطار الذي يتيح للشاعر أن يعرف طبيعة الأرض، أو الماء الذي فيه سيزاول السباحة، حتى لا يكون الماء بلون الغرق.

يقول الأصمعي «لا يصير الشــاعر في قريض الشــعر فحلا، حتى يروي أشــعار العرب، ويســمع الأخبار، ويعرف المعاني، وتدور في مســامعه الألفاظ، وأول ذلك أن يعلم العروض ليكون ميزانــا على قوله، ولنحو يصلح به لســانه وليقيم إعرابه، والنســب وأيام الناس ليستعين على ذلك بمعرفة المناقب والمثالب، وذكرها بمدح أو ذم» (عن كتاب العمدة 1. .)132 ما يعني أن الشــعر هو ثقافة ومعرفة وجمال، وأن الماضين، رغم أن منهم من أكد على البديهة والارتجال، مثل الجاحظ، كانوا لا يتنازلون عن شــرط المعرفة، لأن الشــعر نســج، وحبك، ومعرفة بحياكة النص، أو الخطاب، كما في القصيدة التي كانت تستحكم الشفاهة والإنشاد في بنياتها ومكوناتها، بل إن الجاحظ، ذهب إلى حد تشــبيه صناعة الشــعر، أي ما افترضه معرفة ضرورية بالشــعر، قبل الذهاب إليه، بـ«علم الطب» فهو «لا يحسن منه شيئا أو يكون من الحذاق المتطببين، فإنه إذا أحسن من شيء ولم يبلغ فيه المبالغ، هلك وأهلك أهله، وكذلك العلم بصناعة الكلام» (البيان والتبيين 3. .)337

تشعبت المعارف والعلوم، اليوم، وتشابكت، وأصبح الشعر غير ما كان عليه زمن الماضين من أســافنا الشــعراء والنقاد. لم يعد ممكنا أن ندخل الماء بالسباحة فقط، بل إن مساحات الماء نفســه اتســعت، وأفق الزرقة لم يعد متاحا بما كانت عليه الرؤية من قبل. غزو البحار والمحيطــا­ت يقتضــي أن نخوض الماء بغير وســائل الماضــن، وما كان يســعفهم من علوم ومعارف، أو من آلات وصنائع. الشــعر، اليوم، ســباحة في الغرق نفســه، بمواجهة اللج،

بل بالســير عكس الماء وعكس الريح. المعرفــة تبقى، دائما، هي «آلــة» الإبحار وخوض الماء مهما كانــت درجة الخطر فيه، أو ما نستشعره فيه من أهوال ومثالب.

بهذا الوعي عشت ســيرتي الشــعرية، وفي هذا المفترق من حياتي، ربما وأنا في عقدي السادس، رأيت أن أدلي بشهادتي في كيف دخلتُ الشعر، وكيف خضتُ فيه الكتابة بشــغف وبمســؤولي­ة، وما جرني إليه من بحث وتعمق، لم يكن ممكنا أن أبدأهمــا من الحاضر، أو أكتفي بزمني، بل وجدت الماضي يدعوني إلى فتنه بتعبير الجاحظ، وإلى أن أعرف البدايات قبل أن أنظر إلى ما هو آت. لم يكن ممكنا أن أؤسس لمعرفتي بالشعر، بدون أن أذهب إلى الشــعر نفســه، في متونه، وإلى النقد المحايث له، وإلى التاريخ، وإلى الســياقات الثقافية التي كانت ضمن ما تأسست عليــه «القصيــدة» كما وصلتنــا، أو وصلنــا إليها. بقدر مــا أفادني الحديثون بما فتحوه لي من طرق في ما كتبوه عن الشعر من دراسات وأبحــاث، بقدر ما دفعوني إلــى العودة إلى «الأصــول» وإلى بعض ما ســأجد فيه ما كان ضوءا، قادني إلى مــا خضته من طرق. لم أدخل الشــعر من حاضره، بل جئت إليه من ماضيه، من تعلمي السباحة في قيعانــه، في ما تبقى منه من طوفان بعيــد، جرف الأرض بكل ما فيها، لتنهض الأرض من عشبها وطينها، بما بقي في هوائها من ريح. الشعر، بهــذا المعنى، كان جرحا، ووجودا يضاهي الوجــود. كان جمرة، كلما عام عليها رمادها، من رمادها خرجت، وهجا آخر، جديدا، هو ما أضفى على الوجود خميرته، التي منها تخلّق وانبثق. لم يكن ممكنا أن أصل إلى الحديث وإلى الحداثــة، بدون أن أكون جئت من هذا الماضي الذي بدأ عند العرب، كما عند غيرهم من الأمم والشــعوب، شعرا. أن أنتصر إلى الحداثة، وإلى حداثة الكتابة، بل إلى الشــعر لا «القصيدة» وإلى العمل الشعري، تحديدا، فهذا معناه أنني أنتصر لماضي الإبداع، لأوله، لمن فتحوا المضائق الأولــى، أو خاضوها بكل مشــكلاتها، وأن أبحث لنفســي عن طريق حتى لا أكون مثل متعقب الآثــار، لا تهمه الطريق، بقدر ما يهمه من عبرها، وهو بذلك لن يكون سوى تابع، يسير في طرق الآخريــن، لأنه لا طريق له، بل وجد بدون طريق. أعني أنه الصدى، لا الزرقة نفسها.

في هذه السيرة الشعرية ـ الجمالية، لم يكن يهمني الأشخاص، بل الشــعر، المحترف الذي كرست له أربعة عقود من عمري، قراءة، بحثا، إنصاتا وتأملا. جمعت بين الشعر والنظر فيه، لم أكن ناقدا، ولم أرغب في أن أكون ناقدا، ما كتبته، مما اعتبره البعض نقدا، كان يخصني في تصوري للشــعر، كان سؤالا عن السر الثاوي وراء النص، ووراء هذا الســحر الذي يأخذ القارئ ويسجنه في مائه. من أين يأتي، ما الجهة التي منها يأتي، بأي منظور، وبأي معنى، وكيف يكون مؤثرا، وما الطرق والأســالي­ب التي تجعل لغته تكون خرقا للغة ذاتها، لغة في قلب اللغة، هي وليســت هي في الآن ذاتــه؟ كان هذا القلق الذي مــا زال يعتريني، هو ما رمى بي في قلب الســؤال، في ماء الشعر، في زرقته، في أراضيه التي بدا أنني عثرت فيها على ما يليق بي من حقول وبساتين، شرعت أرعى فيها النجوم والزهور والأقمار، وأملأ أحواضها بالماء والموج والهواء. لم أكتف بالأرض في بذر زروع بســاتيني وأحواضي، بــل نظرت في ما فوقي مــن زرقة، باعتبارها امتدادا للأرض التي فيها أرعى وعولي، رغم توحشها وما في طبيعتها من سر وشراسة، وما ترغب فيه من خلاء وعشب وهواء وماء.

الشــاعر هو هذا الجرح الكبير، هذه الكلمة التي يلقيها فــي الحقل لتصير خميرة لحقول أخرى تنتظر من يخوضها بشــغف واحتراق، وبوعي ومســؤولية، مثل بروميثيوس الذي نذر روحه لتحرير الآخرين، من قيد الإله، الذي اســتبد بالنار له وحده، دون غيره. من هذا الجرح الكبير جئت، وهو ما رأيت أن أرعاه بكل ما رافق سيرتي من آلام، وما اعتراها من إبادة وقتل، لولاهما، ما كنت لأكون، أو ما أنا، في ما أبدو عليه من وجود بالشعر، لا بغيره.

 ??  ??
 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from United Kingdom